المقدمة :
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد :
من الذي عنده شغف بالمعرفة ، وميل على العلم ، وحب في الاطلاع ، وهو لا يعرف ابن تيمية ؟
من الذي لديه همة في المجد ، وعزيمة في الخير ، ورغبة في الصلاح ، ثم لا يعرف ابن تيمية ؟
هل الشمس بحاجة إذا توسطت السماء في يوم صحو أن ينبه على مكانتها ؟ هل القمر في ليلة اكتماله والسماء صافية بحاجة لمن يشيد بعلوه وسنائه ؟
إن ابن تيمية بلغ من الحظوة والرفعة وسمو المنزلة إلى درجة أنه استغنى عن لقب الشيخ ، والعالم ، والإمام ، والمجدد ، وصار أحسن اسمائه أنه : ابن تيمية !
عاشت بعض الدول خمسة قرون ، ثم اندرست وذهبت فلا اثر ولا عين ، ولكن هذا الجهبذ الأعجوبة بقى في ذاكرة الزمان ، وقلب الدهر ، قصة فريدة محفوظة للأجيال ترددها الألسن ، وتترنم بها الشفاء . عاش سلاطين ووزراء ، وأغنياء ، وشعراء ، ثم ماتوا فماتت معهم آثارهم ، وعاش ابن تيمية بلا إمارة ولا وزارة ولا تجارة ، لكن بقى معنا ومع الأجيال من بعدنا حياَ في الضمائر ، ماثلاً في النفوس ، حاضراً في الدروس والمنتديات العلمية ، ومجامع المعرفة ، وصرح الثقافة .
كلما سلكنا سبل العلم ، وضربنا في فجاج الفنون ، تلقانا ابن تيمية ، فهو إمام في التفسير ، حجة في الحديث ، منظر في المعتقد ، مجدد في الملة ، مجتهد في الفقه ، موسوعة في العلوم ، بحر في السير والأخبار ، آية في الذكاء ، أستاذ في العبقرية وسامحني – أيها القارىء الكريم – إن قلت إنه أصبح اشهر من الدولة التي عاش في عهدها !.
ولا نشكوا تقصيراً في حبه – رحمه الله - ، لكنا نستغفر الله إن غلونا في التعلق به ، كيف ننسى أياديه البيضاء وكلما قلبنا سفراً
فإذا هو بين صفحاته بعلمه وحكمته وفقهه واستنباطه ، وكلما حضرنا حواراً فإذا اسمه تتقاذفه الألسن ، يتقاسمه المتحاورون ، كل فريق يقول : أنا أولى به؟! ..
كيف لا نعيش معه وقد فرض علينا احترامه ، وأمتعنا بحضوره ، وآنسنا بذكره الطيب ؟
كيف لا نحب من احب الله ورسوله صل الله عليه وسلم ؟ كيف لا نتولى من تولى ربه ؟ ،
كيف لا نقدر من قدر الشرع ؟ كيف لا نجل من أجل الوحي ؟ .
نعم عندنا – الحمد لله – من الإدراك ما يمنعنا من التقليد الأعمى والتعاطف الأرعن ، والإعجاب الأحمق ، عندنا تمييز بين الذكي والبليد ، والصادق والكاذب ، والقوي والضعيف ، والصالح والطالح ، فهدانا الله بفضله وكرمه إلى معرفة فضل هذا الإمام وصلاحه وذكائه ونبوغه ونصرته للحق ودفاعه عن الشريعة ، ووافقنا على ذلك بشر كثير من العلماء والمؤرخين وأصحاب السيرة وأرباب الفنون وأصحاب التخصصات والمثقفين من المسلمين والكافرين .
دوائر المعارف تترجم عن دول بصفحتين وثلاث ، ولكنها تتحدث عن ابن تيمية بعشرين صفحة ! ،
المجامع العلمية تذكر المصطلحات في سطر ، ولكنها تتكلم عن ابن تيمية في ثلاثين سطرا ، ولسنا متفضلين على ابن تيمية إذا مدحناه أو ذكرنا مناقبه أو عددنا سجاياه ، لكنه متفضل علينا – بعد الله – بفيض علمه ، وغيث فهمه ، وبركة إنتاجه ، ونور آثاره .
ولن أفضل الكلام عن هذا الإمام فهو بحر لجي لكنه عذب ، وهو محيط هادر لكنه فرات ، وهل يستطيع المرء – ولو أجاد السباحة – أن يغوص في أعماق البحر ، أو أن يهبط إلى قعر المحيط ؟ كلا لا يستطيع ، ولكنه يستطيع – فقط – أن يطل إطلالة ( على ساحل ابن تيمية ) .
غفر الله لابن تيمية رحم الله ابن تيمية ، جزى الله ابن تيمية خيراً ، وشكراً لابن تيمية على ما أهدى وأسدى وأبدى .
ولله الحمد أولاً وأخيراً .
وكتبه / عائض القرني .
من هو ابن تيمية ؟
يكفي أن تعرفه بهذا الاسم ؛ فإذا قلت ابن تيمية فكفى ، ولا تزد على ذلك أوصافاً ، أهل المعرفة وأهل العلم يعرفون من هو ابن تيمية من خلال آثارة وكتبه ورسائله وجهوده وثناء الناس عليه ، وإنني أعلن – بالمناسبة – حبي لهذا الإمام العظيم ؛ أحببته لصدقه وإخلاصه ، لإيمانه وجهاده ، أحببته لعلمه ويقينه ، أحببته لعمقه ورسوخه :
أحبك لا تفسير عندي لصبوتي *** أفسر ماذا ؟ والهوى لا يفسر ’
وسوف لا أطيل على القارىء بالتراجم التقليدية التي تنقل من بطون الكتب ، فإن فعلت ذلك فكأني ما فعلت شيئاً ، ولم أزد شيئاً ، ولم اضف ألى المكتبة الإسلامية شيئاً جديداً ؛ إنما قصدي أن أعصر ذهني لأستخرج منه الفقه في ترجمة هذا الإمام وفي سيرة هذا العلم – جمعنا اله به في دار الكرامة - ، وزادي في ذلك الحب والمعرفة التي عمرها ثلاثون سنة .
فمنذ ثلاثين سنة وأنا أعيش مع هذا الإمام ، من خلال تراثه المبارك الذي سرى في الأمة حتى قال بعضهم : ترجمت بعض دوائر المعارف للدولة العباسية بخمس وعشرين صفحة ولابن تيمية بأربعين صفحة ! ،
فانظر إلى دولة عاشت ما يقارب الستمائة سنة ، وحكمها سبع وثلاثون خليفة ، ومع ذلك لم تحظ إلا بخمس وعشرين صفحة ، وقارن بها هذا الفرد العلم الذي لم يتول أي منصب ؛ لا وزارة ، ولا إمارة ، ولم يجمع تجارة ، ومع ذلك ترحم له بأربعين صفحة ،
وأقول : إنني لا أعلم عالماً حظي بالتراجم والكتابة والاهتمام والانشغال بمثل ما حظي به ، حتى إنه ليصدق عليه بيت المتنبي :
وتركك في الدنيا دوياً كأنما *** تداول سمع المرء أنمله العشر
حتى إن بعض الباحثين ذكر أنه قد ألف في ابن تيمية أكثر من ثلاثة الآف كتاب ، ما بين رسالة وكتاب وبحث ورسالة دكتوراه وماجستير وبحوث جامعية .
فيا لهذه العظمة ! ويا لفتح الله على العبد إذا فتح سبحانه وتعالى .. !
طهره في شبابه :
كان ابن تيمية من الصغر في عناية الله عز وجل وفي رعايته ، فلا تعلم له صبوة ، ولا تحفظ له عثرة ، لم تنقل له زلة ؛ لأنه عاش في بيت إمامه وعلم وصيانة وديانة ، فقد رباه أبوه المفتي الحافظ عبدا لحليم ، وكان أعمامه أيضاً من أهل الولاية لله عز وجل ،
فنشأ بين بيته الطاهر العفيف ، وبيت الله العامر المبارك ، وحفظ كتاب من الصغر ، وتعلم السنة وأخذ الآداب الإسلامية من أهل العلم ، وحفظه الله – الحافظ – عن تهور الشباب ، وطيش الفتوة ، ونزق الصبا ، فعاش عفيفاً ديناً مقتصداً صيناً رزيناً عاقلاً محافظاً على الفرائض ، معتنياً بالسنن ، كثير الأذكار والأوراد ،بعيداً عن اللهو وعن البذخ والسرف واللعب وكل ما يشين الرجال ، وكل ما يخدش المروءة ، وكل ما يذهب الوقار ؛
فصار محل العناية من الأكابر ، حتى كان يعرف إذا مر فيقال هذا ابن تيمية ؛ لاشتهاره بين أقرانه بالجد والمثابرة وحب العلم والبراعة في التحصيل ، وسرعة الحفظ والذكاء ، وجودة الخاطر وسيلان الذهن وقوة المعرفة – رحمه الله –
جده في التحصيل:
نقل المؤرخون وأهل السير أن ابن تيمية كان منشغلاً في كل أوقاته بتحصيل العلم ما بين قراءة وتكرار وحفظ ومذاكره واستنباط وكتابة وتأليف وتعليق ، فلا تراه إلا منكباً على كتاب أو جالساً بين يدي شيخ ، أو مذاكراً للطلاب ، أو مطارحاً لأقرانه وزملائه ،
فكل أوقاته انشغال من اولها إلى آخرها ، إلا ما كان فيه وقت مباح كنومٍ أو طعامً أو نحو ذلك ، حتى إنه لم يتزوج – رحمه الله – لانشغاله بالعلم والجهاد ونشر الخير في الناس ، ولم يتول أي ولاية ولا مشيخة ولا دار حديث ولا منصب دنيوي ، ولم يتشاغل بالمال ، ولم يذهب في تجارة ، ولا في زراعة ، ولا في أي مهنة من المهن ،
بل كان - رحمه الله – منكباً على العلم ، ثم إنه لم ينهل من علم واحد ولا من تخصص فحسب ، ولا من فنٍ فقط ، بل تبحر في جميع الفنون فبرع فيها ورد على أصحابها ، ورسخ في الجميع فصار آية وأصبح أعجوبة ًفبتحصيله يضرب المثل بين طلبة العلم ، وسيرته تعتبر نبراساً لمن اراد أن يحصل المعرفة ويبحث عن العلم ، ويصعد في سلم الهمة العالية ، فهو بلا شك قدوة في هذا الباب ، وأسوة حسنة لرواد المعرفة ، وشداة الحق ، والباحثين عن الحقيقة ، والطالبين للعلم النافع .
حفظه :
أما حفظه فحدث ولا حرج ؛ فقد صار ابن تيمية مضرب المثل عند أصدقائه وأعدائه ، واعترف الكل له بأنه أحفظ من رأوا ، وعدوه من الأئمة الكبار في الحفظ ، وليس حفظاً فقط بل حفظاً بفهم ، فكان يسابق حفظه نظره ،
وكان يعطى الكتاب في صغره فيقرؤه مرة فينتفش في ذهنه ، وذكر عن نفسه أنه يقرأ المجلد – بحمد الله – فيرسخ في ذهنه ، وبذلك حفظ كتاب الله عز وجل ، وحفظ السنة المطهرة ، وحفظ أقوال أهل العلم ، وحفظ الآثار ، وحفظ التفاسير ، وحفظ شواهد اللغة ،
فكان إذا تكلم أغلق عينيه فسالت قريحته بنهر يتدفق من العلم النافع المبارك حتى قال فيه بعض الشعراء :
وقاد ذهن إذا سالت قريحته *** يكاد يخشى عليه من تلهبه !
وقد نفع الله بهذا الحفظ ؛ فقد تركت ذاكرته القوية المباركة للأمة ميراثاً مباركاً من الكتب النافعة ، وكان يملي عليه أحياناً بعض المجلدات من حفظه في السفر وفي الحبس حيث لا توجد مكتبة لدية فيأتي بالعجب العجاب ،
وينقل بعض كلام الأئمة بنصه وفصه ثم يعلق عليه ، وربما استدرك ، وينقل الأحاديث من حفظه وينسبها لأصحابها ،
أما القرآن فقد سال على طرف لسانه يأخذ ما شاء ويترك ما شاء فقد حفظه من الصغر حتى أصبح كتاب الله عز وجل عنده كسورة الفاتحة ، مع فهم ثاقب لما يحفظ ، فليس ناقلاً فحسب كما هو شأن كثير من الناس يحفظ المعلومة ثم لا يتصرف فيها ، بل كان يحفظها ويعيها وينزلها ويقدرها حق قدرها ، ويوظفها في المكان المناسب ، ويخرج مها ما شاء الله من الكنوز والعبر والعجائب ، فيأتي بما يشده الألباب ويذهل العقول من الفوائد والدرر والنكات العلمية .
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد :
من الذي عنده شغف بالمعرفة ، وميل على العلم ، وحب في الاطلاع ، وهو لا يعرف ابن تيمية ؟
من الذي لديه همة في المجد ، وعزيمة في الخير ، ورغبة في الصلاح ، ثم لا يعرف ابن تيمية ؟
هل الشمس بحاجة إذا توسطت السماء في يوم صحو أن ينبه على مكانتها ؟ هل القمر في ليلة اكتماله والسماء صافية بحاجة لمن يشيد بعلوه وسنائه ؟
إن ابن تيمية بلغ من الحظوة والرفعة وسمو المنزلة إلى درجة أنه استغنى عن لقب الشيخ ، والعالم ، والإمام ، والمجدد ، وصار أحسن اسمائه أنه : ابن تيمية !
عاشت بعض الدول خمسة قرون ، ثم اندرست وذهبت فلا اثر ولا عين ، ولكن هذا الجهبذ الأعجوبة بقى في ذاكرة الزمان ، وقلب الدهر ، قصة فريدة محفوظة للأجيال ترددها الألسن ، وتترنم بها الشفاء . عاش سلاطين ووزراء ، وأغنياء ، وشعراء ، ثم ماتوا فماتت معهم آثارهم ، وعاش ابن تيمية بلا إمارة ولا وزارة ولا تجارة ، لكن بقى معنا ومع الأجيال من بعدنا حياَ في الضمائر ، ماثلاً في النفوس ، حاضراً في الدروس والمنتديات العلمية ، ومجامع المعرفة ، وصرح الثقافة .
كلما سلكنا سبل العلم ، وضربنا في فجاج الفنون ، تلقانا ابن تيمية ، فهو إمام في التفسير ، حجة في الحديث ، منظر في المعتقد ، مجدد في الملة ، مجتهد في الفقه ، موسوعة في العلوم ، بحر في السير والأخبار ، آية في الذكاء ، أستاذ في العبقرية وسامحني – أيها القارىء الكريم – إن قلت إنه أصبح اشهر من الدولة التي عاش في عهدها !.
ولا نشكوا تقصيراً في حبه – رحمه الله - ، لكنا نستغفر الله إن غلونا في التعلق به ، كيف ننسى أياديه البيضاء وكلما قلبنا سفراً
فإذا هو بين صفحاته بعلمه وحكمته وفقهه واستنباطه ، وكلما حضرنا حواراً فإذا اسمه تتقاذفه الألسن ، يتقاسمه المتحاورون ، كل فريق يقول : أنا أولى به؟! ..
كيف لا نعيش معه وقد فرض علينا احترامه ، وأمتعنا بحضوره ، وآنسنا بذكره الطيب ؟
كيف لا نحب من احب الله ورسوله صل الله عليه وسلم ؟ كيف لا نتولى من تولى ربه ؟ ،
كيف لا نقدر من قدر الشرع ؟ كيف لا نجل من أجل الوحي ؟ .
نعم عندنا – الحمد لله – من الإدراك ما يمنعنا من التقليد الأعمى والتعاطف الأرعن ، والإعجاب الأحمق ، عندنا تمييز بين الذكي والبليد ، والصادق والكاذب ، والقوي والضعيف ، والصالح والطالح ، فهدانا الله بفضله وكرمه إلى معرفة فضل هذا الإمام وصلاحه وذكائه ونبوغه ونصرته للحق ودفاعه عن الشريعة ، ووافقنا على ذلك بشر كثير من العلماء والمؤرخين وأصحاب السيرة وأرباب الفنون وأصحاب التخصصات والمثقفين من المسلمين والكافرين .
دوائر المعارف تترجم عن دول بصفحتين وثلاث ، ولكنها تتحدث عن ابن تيمية بعشرين صفحة ! ،
المجامع العلمية تذكر المصطلحات في سطر ، ولكنها تتكلم عن ابن تيمية في ثلاثين سطرا ، ولسنا متفضلين على ابن تيمية إذا مدحناه أو ذكرنا مناقبه أو عددنا سجاياه ، لكنه متفضل علينا – بعد الله – بفيض علمه ، وغيث فهمه ، وبركة إنتاجه ، ونور آثاره .
ولن أفضل الكلام عن هذا الإمام فهو بحر لجي لكنه عذب ، وهو محيط هادر لكنه فرات ، وهل يستطيع المرء – ولو أجاد السباحة – أن يغوص في أعماق البحر ، أو أن يهبط إلى قعر المحيط ؟ كلا لا يستطيع ، ولكنه يستطيع – فقط – أن يطل إطلالة ( على ساحل ابن تيمية ) .
غفر الله لابن تيمية رحم الله ابن تيمية ، جزى الله ابن تيمية خيراً ، وشكراً لابن تيمية على ما أهدى وأسدى وأبدى .
ولله الحمد أولاً وأخيراً .
وكتبه / عائض القرني .
من هو ابن تيمية ؟
يكفي أن تعرفه بهذا الاسم ؛ فإذا قلت ابن تيمية فكفى ، ولا تزد على ذلك أوصافاً ، أهل المعرفة وأهل العلم يعرفون من هو ابن تيمية من خلال آثارة وكتبه ورسائله وجهوده وثناء الناس عليه ، وإنني أعلن – بالمناسبة – حبي لهذا الإمام العظيم ؛ أحببته لصدقه وإخلاصه ، لإيمانه وجهاده ، أحببته لعلمه ويقينه ، أحببته لعمقه ورسوخه :
أحبك لا تفسير عندي لصبوتي *** أفسر ماذا ؟ والهوى لا يفسر ’
وسوف لا أطيل على القارىء بالتراجم التقليدية التي تنقل من بطون الكتب ، فإن فعلت ذلك فكأني ما فعلت شيئاً ، ولم أزد شيئاً ، ولم اضف ألى المكتبة الإسلامية شيئاً جديداً ؛ إنما قصدي أن أعصر ذهني لأستخرج منه الفقه في ترجمة هذا الإمام وفي سيرة هذا العلم – جمعنا اله به في دار الكرامة - ، وزادي في ذلك الحب والمعرفة التي عمرها ثلاثون سنة .
فمنذ ثلاثين سنة وأنا أعيش مع هذا الإمام ، من خلال تراثه المبارك الذي سرى في الأمة حتى قال بعضهم : ترجمت بعض دوائر المعارف للدولة العباسية بخمس وعشرين صفحة ولابن تيمية بأربعين صفحة ! ،
فانظر إلى دولة عاشت ما يقارب الستمائة سنة ، وحكمها سبع وثلاثون خليفة ، ومع ذلك لم تحظ إلا بخمس وعشرين صفحة ، وقارن بها هذا الفرد العلم الذي لم يتول أي منصب ؛ لا وزارة ، ولا إمارة ، ولم يجمع تجارة ، ومع ذلك ترحم له بأربعين صفحة ،
وأقول : إنني لا أعلم عالماً حظي بالتراجم والكتابة والاهتمام والانشغال بمثل ما حظي به ، حتى إنه ليصدق عليه بيت المتنبي :
وتركك في الدنيا دوياً كأنما *** تداول سمع المرء أنمله العشر
حتى إن بعض الباحثين ذكر أنه قد ألف في ابن تيمية أكثر من ثلاثة الآف كتاب ، ما بين رسالة وكتاب وبحث ورسالة دكتوراه وماجستير وبحوث جامعية .
فيا لهذه العظمة ! ويا لفتح الله على العبد إذا فتح سبحانه وتعالى .. !
طهره في شبابه :
كان ابن تيمية من الصغر في عناية الله عز وجل وفي رعايته ، فلا تعلم له صبوة ، ولا تحفظ له عثرة ، لم تنقل له زلة ؛ لأنه عاش في بيت إمامه وعلم وصيانة وديانة ، فقد رباه أبوه المفتي الحافظ عبدا لحليم ، وكان أعمامه أيضاً من أهل الولاية لله عز وجل ،
فنشأ بين بيته الطاهر العفيف ، وبيت الله العامر المبارك ، وحفظ كتاب من الصغر ، وتعلم السنة وأخذ الآداب الإسلامية من أهل العلم ، وحفظه الله – الحافظ – عن تهور الشباب ، وطيش الفتوة ، ونزق الصبا ، فعاش عفيفاً ديناً مقتصداً صيناً رزيناً عاقلاً محافظاً على الفرائض ، معتنياً بالسنن ، كثير الأذكار والأوراد ،بعيداً عن اللهو وعن البذخ والسرف واللعب وكل ما يشين الرجال ، وكل ما يخدش المروءة ، وكل ما يذهب الوقار ؛
فصار محل العناية من الأكابر ، حتى كان يعرف إذا مر فيقال هذا ابن تيمية ؛ لاشتهاره بين أقرانه بالجد والمثابرة وحب العلم والبراعة في التحصيل ، وسرعة الحفظ والذكاء ، وجودة الخاطر وسيلان الذهن وقوة المعرفة – رحمه الله –
جده في التحصيل:
نقل المؤرخون وأهل السير أن ابن تيمية كان منشغلاً في كل أوقاته بتحصيل العلم ما بين قراءة وتكرار وحفظ ومذاكره واستنباط وكتابة وتأليف وتعليق ، فلا تراه إلا منكباً على كتاب أو جالساً بين يدي شيخ ، أو مذاكراً للطلاب ، أو مطارحاً لأقرانه وزملائه ،
فكل أوقاته انشغال من اولها إلى آخرها ، إلا ما كان فيه وقت مباح كنومٍ أو طعامً أو نحو ذلك ، حتى إنه لم يتزوج – رحمه الله – لانشغاله بالعلم والجهاد ونشر الخير في الناس ، ولم يتول أي ولاية ولا مشيخة ولا دار حديث ولا منصب دنيوي ، ولم يتشاغل بالمال ، ولم يذهب في تجارة ، ولا في زراعة ، ولا في أي مهنة من المهن ،
بل كان - رحمه الله – منكباً على العلم ، ثم إنه لم ينهل من علم واحد ولا من تخصص فحسب ، ولا من فنٍ فقط ، بل تبحر في جميع الفنون فبرع فيها ورد على أصحابها ، ورسخ في الجميع فصار آية وأصبح أعجوبة ًفبتحصيله يضرب المثل بين طلبة العلم ، وسيرته تعتبر نبراساً لمن اراد أن يحصل المعرفة ويبحث عن العلم ، ويصعد في سلم الهمة العالية ، فهو بلا شك قدوة في هذا الباب ، وأسوة حسنة لرواد المعرفة ، وشداة الحق ، والباحثين عن الحقيقة ، والطالبين للعلم النافع .
حفظه :
أما حفظه فحدث ولا حرج ؛ فقد صار ابن تيمية مضرب المثل عند أصدقائه وأعدائه ، واعترف الكل له بأنه أحفظ من رأوا ، وعدوه من الأئمة الكبار في الحفظ ، وليس حفظاً فقط بل حفظاً بفهم ، فكان يسابق حفظه نظره ،
وكان يعطى الكتاب في صغره فيقرؤه مرة فينتفش في ذهنه ، وذكر عن نفسه أنه يقرأ المجلد – بحمد الله – فيرسخ في ذهنه ، وبذلك حفظ كتاب الله عز وجل ، وحفظ السنة المطهرة ، وحفظ أقوال أهل العلم ، وحفظ الآثار ، وحفظ التفاسير ، وحفظ شواهد اللغة ،
فكان إذا تكلم أغلق عينيه فسالت قريحته بنهر يتدفق من العلم النافع المبارك حتى قال فيه بعض الشعراء :
وقاد ذهن إذا سالت قريحته *** يكاد يخشى عليه من تلهبه !
وقد نفع الله بهذا الحفظ ؛ فقد تركت ذاكرته القوية المباركة للأمة ميراثاً مباركاً من الكتب النافعة ، وكان يملي عليه أحياناً بعض المجلدات من حفظه في السفر وفي الحبس حيث لا توجد مكتبة لدية فيأتي بالعجب العجاب ،
وينقل بعض كلام الأئمة بنصه وفصه ثم يعلق عليه ، وربما استدرك ، وينقل الأحاديث من حفظه وينسبها لأصحابها ،
أما القرآن فقد سال على طرف لسانه يأخذ ما شاء ويترك ما شاء فقد حفظه من الصغر حتى أصبح كتاب الله عز وجل عنده كسورة الفاتحة ، مع فهم ثاقب لما يحفظ ، فليس ناقلاً فحسب كما هو شأن كثير من الناس يحفظ المعلومة ثم لا يتصرف فيها ، بل كان يحفظها ويعيها وينزلها ويقدرها حق قدرها ، ويوظفها في المكان المناسب ، ويخرج مها ما شاء الله من الكنوز والعبر والعجائب ، فيأتي بما يشده الألباب ويذهل العقول من الفوائد والدرر والنكات العلمية .
énergieالأحد ديسمبر 08, 2013 10:34 pm