قلبٌ موصولٌ بالله ..!!
القلب هو مجمع المشاعر داخل الإنسان من فرح وحزن، وحب وكره، وخوف ورجاء، وسكينة وطمأنينة.
وهذه المشاعر يتقاسمها طرفان: الإيمان والهوى، وأيّهما يسيْطِر على القلب فإنَّه يسعى لإخْضاع الجوارح لسيطرته، فالقلب هو مخزن الدوافع ومحل اتخاذ القرار، بصلاحه يفوز الإنسان وبفساده يهلك؛ لقول النَّبيِّ - عليْه الصَّلاة والسَّلام -: ((ألا إنَّ في الجسد مضغةً، إذا صلحتْ صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كلُّه، ألا وهي القلب)).
وبعد:
فما أحوجنا في هذه الأيام التى انتشرت فيها الفِتن والمغريات، وجرفتْنا تيَّارات الهوى والشهوات، وطغت الماديَّة على الروحانية، وأغرقَتنا جواذب الأرض وشواغِلها: المال، الأولاد، النساء، العمارات، السيارات، ما أحوجَنا إلى القلب الموصول بالله! القلب الذي تجرَّد من جميع جواذب الأرْض وشواغلها ليتَّجه إلى الله وحْده، يأنس به ويعيش فى كنفه ورعايته.
قلب لا تزعْزِعه الفتن ولا تؤثِّر فيه الشهوات والمغريات، قلب يواجِه الطغيان بالإيمان والأذى بالثَّبات، قلب مطمئنٌّ ساكن إلى ربِّه، راضٍ بقضائه وقدَره، واثق في نصْرِه ومعونته، فلا يتسلَّل إليه اليَأس والإحباط مهما زاد الكرب واستبدَّ به الضيق.
قلب يستمدُّ تصوُّراته وأفكاره ومشاعره وسلوكيَّاته من ميزان السَّماء لا من ميزان الأرض، قلب يشعر ويحسُّ بيد الله وهي تقود خطاه وتَهديه السبيل.
قلب رفع شعار: ﴿ قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ ﴾ [الأنعام: 162].
حول صفات هذا القلب وكيفية الوصول إليه كانت هذه الرسالة:
صفات القلب الموصول بالله:
قلب دائم الخوف من الله:
الخوْف من الله هو الحاجز الذى يمنع القلب من الاستغراق فى الشَّهوات والملهيات، هو اللجام الذي يَمنع النفس من اتِّباع الهوى والوقوع فى سكرات الغفلة والمعصية، وحتى إذا ما أقدم عليْها بحكم ضعْفِه البشرى، فإنَّ سياط الخوف من الله كافية للتَّوبة والإنابة والاستغفار.
وهذا الخوف يدْفع إلى اليقظة الدَّائمة والانتِباه المستمرّ، فيُلزم نفسه أداء الطَّاعات، واجتِناب المحرَّمات، لا خوْف يهزّ المشاعِر ويرسل الدموع، ثم يمضي إلى حال سبيله.
فالقلب الموْصول بالله دائمُ التَّفكير في الخوف تعظيمًا لمقام الله، والخوف من التَّقصير في حق العبوديَّة، والخوْف من عاقبة الذُّنوب، والخوف من الموت وسكراته، من القبر ووحشته، من القيامة وأهوالها؛ ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ﴾ [الملك: 12].
قلب دائم الخشوع:
القلب الموصول بالله دائم الخضوع والانكِسار لله، ينكسِر بين يديْه في ذل وخشوع، يعترِف دومًا بضعْفه وعجْزه وفقره، يشكو دائمًا همَّه وغمَّه إلى مولاه، سريع التأثُّر بالموعظة، يعشَق السُّجود لأنَّ فيه انكسارًا لمولاه، مداوم على الذِّكر، رافع يديْه في فقر ومذلَّة إلى ربِّه قائلاً: "اللَّهمَّ لا تكلني إلى نفسي طرفة عين وأصلح لي شأني كلَّه".
لسان حاله يقول: يا رب، افعل بي ما تشاء، كيفما تشاء، وقتما تشاء.
قلب دائم اللجوء إلى الله:القلب الموصول بالله دائم الفرار إلى الله، كلَّما أصابه هم أو غم أو واجهَتْه مشكلة أو قصَّر في أمر من الأمور، فهو دائم اللجوء إلى الله، يشكو إليه استِحْواذ الشَّيطان وطغْيان الدنيا، والعودة للذنوب، يشكو إليه ظلم الآخرين، يناجي مولاه في كل وقت وحين، قلب رفع شعار: ﴿ وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى ﴾ [طه: 84].
قلب دائم التوبة:
قد يقع هذا القلب في المعاصي والسيئات، وقد يتعرَّض للهفوات والزلات؛ لكنَّه سرعان ما يعود إلى ربِّه بالتَّوبة والاستِغْفار، فيعلن ندمَه ويظهر حزنه وأسفه، ويبكي على تقصيره فى حقِّ ربِّه، ويسارع لنيْل عفْوه ومغفرته؛ ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [آل عمران: 135].
قلب عدوه الغفلة:فالغفلة أشدُّ ما يُفسِد القلب، فالقلب الغافل معطَّل عن وظيفتِه، معطَّل عن الالتِقاط والتأثُّر والاستجابة.
والقلب الغافِل هو الذي ينشغل بملذَّات الدُّنيا وشهواتِها، فيتعلَّق قلبه بالزَّوجة والأولاد والأموال والوظيفة، فلا يصبح فى قلبه متَّسع لله.
لذا؛ فالقلْب الموْصول بالله يكْرَه الغفلة، فهو دائم الذكر لله في كل الأوقات، وقد تجرَّد من كل متاع الدنيا، فأصبح له ما يشغله عن اللَّهو واللَّغو، فلم يعُد في القلب متَّسع لغير الله.
قلب يكره التشاحن والتباغض:
فهو سليم من الأحقاد والبغضاء، لا يخالطه حسدٌ أو غلّ، قلب يُحبُّ الخير للآخَرين؛ بل ويُؤْثِرهم على نفسِه، قلب مليء بالمودَّة والرَّحمة والعطف،
يسعى لمساعدة الآخَرين وقضاء حوائجِهم، فهو دائم الحلم والعفو والصَّفح عن الناس، قلب يعفو عمَّن ظلمه، ويعطي من حرمه، ويصل من قطعه.
قلب لا يعرف اليأس:
فهو لا ييأس من رَوح الله، ولو أحاطتْ به الكروب واشتدَّ به الضيق؛ لأنَّه في طمأنينة من ثقتِه بالله، واثق في رحْمة الله وعوْنه وقدرته على كشْف الضر.
قلب لا يعترِف بالهزيمة والفشَل؛
لأنَّه متيقِّن أنَّ قدر الله دائمًا ينفذ، دائمًا يغير ويبدل، فرج بعد ضيق، يسر بعد عسر، فهو يسير ويستشعِر يد الله وهي تقود خطاه وتَهديه السَّبيل.
قلب معلق بالآخرة:
فهو يعلم أنَّ الحياة للأرض تليق بالدِّيدان والحشَرات والزَّواحف والأنعام، أمَّا الحياة للآخِرة فهي الحياة الحقيقيَّة اللائقة بالإنسان الكريم، الذي خلقه الله ونفخ فيه من روحه.
لذا؛ فإنَّه يتعامل مع الدُّنيا على أنَّها قصيرة عاجلة، هزيلة ذاهبة، حقيرة تافهة، فلا يتلهَّف على تحصيلها، ولا يحزن على فواتِها ونقصانِها.
ويترك التَّشاحُن والتَّنافُس من أجلِها، فلا تستغرق أوْقاته وتفكيره، فقد جعل الآخِرة أكبر همِّه وغاية آمالِه وطموحاتِه؛ ﴿ وَمَا هَذِهِ الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ [العنكبوت: 64].
قلب لا يعرف الراحة:فقدِ استطاع أن ينتصر على شهواته وملذَّاته، ونجح في تحرير النَّفس من الهوى وحبِّ الراحة وكراهية التكاليف، فتراه يُسابق في الخيرات، يُسارع إلى الطَّاعات.
لا يكاد يلمح بابًا من أبواب الخير إلاَّ وينطلق إليه، فهو دائمًا يكْدح ويتعب في الطريق إلى ربِّه ليلقاه بِمؤهلات تبعد عنه كبد الحياة، وتنتهي به إلى الرَّاحة الكبرى في ظلال الله؛ ﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [آل عمران: 133].
كيف يكون قلبك موصولاً بالله؟
معرفة الله - عزَّ وجلَّ -:
على قدر معرفة الله - عزَّ وجلَّ - على قدْر ما يمتلئ القلب من خشْيته - سبحانه - ومحبته، فينشأ من ذلك الإخلاص والإنابة والتَّعظيم، والتوكُّل والاستِسلام لله - عزَّ وجلَّ.
هذا هو بداية سير القَلْب إلى الله - عزَّ وجلَّ.
ومعرفة الله - عزَّ وجلَّ - تحدُث من خلال مطالعة وتدبُّر أسمائِه الحسنى وصفاته العلى، من خلال التدبُّر والتأمل في آيات القرآن الكريم، من خلال التفكر في ملكوت
السماوات والأرض، برؤية عجائب قدرتِه وبديع صنعه، من خلال رؤية مخلوقاته وتذكر نعمه وآلائه، ورؤية آثار رحمته ومظاهر قدرته، وقوَّته وبطشه في إهلاك الظَّالمين
على مرِّ القرون والأزمان.
تدبر القرآن:
القرآن هو الدواء المثالي لتحرير القَلب من قُيوده وشهواته وتعلُّقه بالدنيا ومغرياتها، فالقُرآن هو الوسيلة الأكيدة لإيقاظ الفَرْد من غفلته وجعْله في حالة دائمة من الانتِباه،
وهو أفضل مولِّد للطاقة الإيمانيَّة الكامنة بداخل القلوب.
فالقُرآن هو الرُّوح، الذي يؤنس المؤمن فى رحلتِه الشَّاقَّة في هذه الأرض؛ ﴿ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا ﴾ [الشورى: 52].
وهو النور الذي يبين لك معالم الطَّريق ويضيء ظلمات الجهْل والمعصية؛ ﴿ قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ
الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾[المائدة: 15- 16].
فالحياة مع القرآن هى الحياة مع الله، فالقرآن كلام الله المنزَّل وكلامه الموجَّه إلى الإنسان لمعرِفة ربه حقَّ المعرفة، معرفته بأسمائه وصفاته وأفعاله، بقدرته المعجزة،
برحمته الواسعة، بعلمه الشامل المحيط، فحين يعيش الإنسان مع القُرآن فهو يعيش مع الله.
لذا؛ يجب علينا أن نتعامل مع القرآن على حقيقتِه بأنَّه منهج شامل للحياة، دليل رحلة الإنسان فى هذه الحياة يعرفه من أين يبدأ وأين ينتهي، وما هي المعوقات
والأشواك التى تعتريه فى طريقه، وكيف يتغلب عليها؟
إذًا؛ لا بدَّ أن نتأثَّر بالقرآن؛ ﴿ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً ﴾ [الأنفال: 2].
لا بدَّ أن نتجاوب مع آياتِه ونتذوق حلاوته، لا بدَّ أن يتحوَّل الاستِماع إلى القرآن وتلاوته إلى سلوك ملتزم بما أنزل الله فيه من أحْكام وتوجيهات.
من أجل ذلك أوْصانا النَّبيُّ - عليْه الصَّلاة والسَّلام - بالمداومة على تلاوة القُرآن، فقال: ((اقرؤوا القُرآن؛ فإنَّه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه))، وحذَّرنا من الجفْوة والقطيعة بين المسلم وكتاب الله؛ حتَّى لا ينقطع الرباط الذى يربط القلب المؤمن بالله فقال: ((إنَّ الَّذي ليْس في جوْفِه شيءٌ من القُرآن فهو كالبيْت الخرب)).
مراقبة الله - عز وجل -:
إنَّ استشعار المؤمن مراقبة الله - عزَّ وجلَّ - في كلِّ أمور حياتِه يدفعه أن يستحيي من مبارزة ربِّه بالمعاصي والذنوب، فلا يقْبل أن يراه الله إلاَّ كما يحب، فمَن علِم أنَّ
الله مطَّلع عليْه فلا بدَّ أن يَحرص على نقاء سريرتِه وصِدْق نيَّته، وذلك تدْريب عملي على الإحسان والإخلاص.
فحقيقة الإحسان أن تعبد الله كأنَّك تراه، فإنْ لم تكن تراه فإنه يراك.
إذًا؛ مع استِمرار المراقبة وتوْبيخ النَّفس كلَّ لحظة على ما تفعله أمام الله، يحيا القلب وينشط للطَّاعة، ويستبشر بالحسنة، ويفتر عن المعصية، ويتوارى عن الذَّنب.
المحاسبة المستمرة للنفس:لا بد للمؤمن من جلسات متكرّرة يُحاسب فيها نفسه، يُحصي فيها ذنوبه، يستشْعِر تقْصيره وتفريطَه في
حقوق الله، فهو يعلم أنَّه مَن حاسب نفسَه في الدُّنيا خفَّ عنه الحساب يوم القيامة؛ لذلك أوصانا النَّبيُّ - عليْه الصَّلاة والسَّلام - بدوام مُحاسبة النَّفس، فقال: ((الكيِّس
مَن دان نفسَه وعمِل لما بعد الموْت، والعاجزمَن أتْبَع نفسَه هواها وتَمنَّى على الله))، دان نفسه: حاسبها.
وما أرْوع ما قاله الحسَن البصري: "إنَّ المؤمن - والله - لا نراه إلاَّ يعاتب نفسه: ماذا أردت بأكلتي؟ ماذا أردت بكلمتي؟ ماذا أردت بحديث نفسي؟ وإن الفاجر يَمضى قدمًا
لا يحاسب نفسه"!
غض البصر:
النَّظرة الحرام سهم مسْموم من سهام إبليس يصيب القلب فيفسده، ويورثه ذلاًّ وانكسارًا وتتأجَّج فيه نار الشَّهوة، فينقاد القلب وراء سعار الشهوات والملذَّات، فيصبح
الإنسان أسيرًا لأهوائِه حريصًا على إرْواء شهواتِه، فبَيْن العين والقلب منفذ وطريق.
فإذا خربت العين وفسدتْ خرب القلْبُ وصار كالمزبلة، التي هي محل الأوساخ والنجاسات، فلا يصلُح لسكن معرفة الله ومحبَّته والإنابة إليه والأنس به؛ لذلك أمرنا الله -
عزَّ وجلَّ - بغضِّ أبصارِنا؛ ﴿ قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ﴾ [النور: 3].
أخي الحبيب، تذكَّر أنَّ نظر الله أقْرب إليك من نظرِك للحرام؛ فهو ﴿ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ﴾ [غافر: 19].
واعلم أنَّك سُتسأل عن بصرك يوم القيامة؛ ﴿ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ﴾ [الإسراء: 36]، فهل أعددتَ جوابًا لهذا السؤال؟
التفكر زاد القلوب:إنَّ التفكُّر في خلق الله والتدبُّر والتأمل في كتاب الكون المفتوح، وتتبع قدرة الله المبدعة وهي تحرِّك هذا الكون، وتقلِّب صفحاته - من شأنه أن
يَجعل القلب دائمَ الصِّلة بالله، فيملؤه بالخوف والرَّجاء والحبِّ والإخلاص، والتعظيم والتوكُّل والاستِسْلام لله - عزَّ وجلَّ.
ولقد أثْنى الله على عبادِه المتفكِّرين في مخلوقاته؛ لأنَّ تفكُّرهم فيها أوْصلهم إلى شهادتِهم بأنَّه - تعالى - لم يخلقهم باطِلاً وأحدث فى قلوبهم مزيدًا من الخشية
والإنابة؛ ﴿ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [آل عمران: 191].
والتفكُّر في أسماء الله وصفاته من أعظم أبواب التفكُّر، فإذا تأمَّلت صفات السَّمع والبصَر والعِلم، انبعثت من داخِلك قوَّة الحياء فتستحيي أن يرى ربُّك منك ما يكره أو
يسمع ما يكره، أو تخفي في صدرك ما يكره، وإذا تأمَّلت صفات الكفاية والقيام على مصالح العباد ورزقهم، ودفع المصائب عنهم، انبعثتْ بداخلك قوَّة التوكُّل عليه، والتفويض إليه والرضا به.
يقول الحسن البصري: "تفكُّر ساعة خير من قيام ليلة".
التوكُّل على الله:
التوكل ثمرة استقرار الإيمان فى القلب؛ ﴿ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾ [المائدة: 23]، التوكُّل هو تعلُّق القلب بالله - وحده - في حصول النتائج دون الالتفات للأسباب مع الأخذ بها.
فالتوكُّل على الله يبعث فى القلْب الثِّقة والطمأنينة والسَّكينة والرضا، ألا ترى ما حدث للنبي - عليْه الصَّلاة والسَّلام - وللصدِّيق وهُما فى غار ثور، عندما رأى أبو بكر
المشركين يُحيطون بالغار فقال: يا رسول الله، لو نظر أحدُهم تحت قدميه لأبصرنا، فقال النبي - عليه الصلاة والسَّلام -: ((يا أبا بكر، ما ظنُّك باثنين الله ثالثهما؟!))، حقًّا
وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ﴾ [الطلاق: 3].
الدعاء:
الدُّعاء هو إقرار واعتراف النَّفس بضعفها وعجزها وجهلها، واعترافها بعظمة الله وقدرته وقيوميَّته، فالدعاء سلاح المؤمن حينما يشكو من قسوة الظلم، ويبكي من كثرة
الذنوب، وتُحيط به المصائب والهموم، وتنقطع به الأسباب وتسدّ في وجهه الطرقات، عندها يرفع يديْه ذليلاً، وينكس رأْسه خشوعًا وانكِسارًا، ويهتف من أعْماق قلبه:
يارب..
وعندها يجيبه الله - عزَّ وجلَّ - ويقول له: سلني أعطِك، اطلبْنِي تجدني، أليْس هو القائل: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُم يَرْشُدُونَ ﴾ [البقرة: 186].
الإكثار من الأعمال الصالحة:
لا بدَّ للقلب من زاد وغذاء، ولا بدَّ للنَّفس من شغل، فإن لم نشغل أنفُسَنا بالحقِّ شغلتنا بالباطل؛ ولكي يكون القلب موصولاً بالله لا بدَّ من المبادرة إلى فعل الخيرات
والتسابُق إلى الأعمال الصَّالحة، وعلى سبيل المثال: المحافظة على الصَّلوات الخمْس في أوْقاتها في جماعة بالمسجد، الحرص على صيام التطوع، المحافظة على
الصباح والمساء، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الإكثار من الصدقة، حضور دروس العلم ومطالعة كتب العلم، الحرص على زيارة المرضى، برّ الوالدين وصلة الأرحام؛ ﴿ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المُتَنَافِسُونَ ﴾ [المطففين: 26].
احذر مفسدات القُلوب:
المعاصي والذنوب من أعظم مفسدات القلوب، فلا شكَّ أنَّ ضرر الذُّنوب على القلوب كضرَر السُّموم على الأبْدان، فالقلب الذي يأْلف المعصية ينطمِس ويظلم ويَرين عليه
كثيف، يحجُب النور عنه ويفقِده الحساسية حتى يتبلَّد ويموت.
يقول النبيُّ - عليه الصَّلاة والسَّلام -: ((إنَّ العبد إذا أذنبَ ذنبًا نكت في قلبه نكتة سوداء، فإذا هو نزَع واستغفر وتاب صُقِل قلبه، وإن عاد زيد فيها حتَّى تعلو قلبه، فهو
الران الَّذي قال الله تعالى: ﴿ كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [المطففين: 14].
إذًا؛ المعاصي سبب للذل والصغار وهوان العبْد على ربِّه، والشعور بوحشه بين العبد وربِّه.
والمعاصي قسمان: معاصي الجوارح (العين - الأذن - اللسان - القدم - اليد).
ومعاصي القلوب وهي أشد خطرًا من معاصي الجوارح، وهي: (الحسد والحقد - الشح والبخل - الغرور والكبر - حب الظهور والشهرة - حب الدنيا).
وإيَّاك ثم إياك أن تستصغِر ذنبك وتتهاون بقيمته؛ لأنَّ الله - عزَّ وجلَّ - يقول: ﴿ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَراًّ يَرَهُ ﴾ [الزلزلة: 8].
فلا تنظر إلى صغر المعصية ولكن انظر إلى عِظَم مَن عصيت، وتذكَّر وصيَّة النبي - عليْه الصَّلاة والسلام -: ((إيَّاكم ومحقّرات الذنوب؛ فإنَّهنَّ يَجتمعن على المرْء حتَّى يُهْلِكنه)).
والمعاصي تضعف في القلب تعظيم الرَّبِّ، فلو تمكَّن وقار الله وعظمتُه في قلبٍ لَما تَجرَّأ على معصيته، والذَّنب إمَّا يُميت القلب أو يضعف قوَّته، واعْلم أنَّ ظلام المعصية
حتَّى يصير القلب مثلَ اللَّيل البَهيم؛ ﴿ فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَتِي فِي الصُّدُورِ ﴾ [الحج: 46].
وبقيت كلمة:
لا بدَّ لنا من وقفة مع القلب، لا بدَّ من الاهتمام بتطْهير القلب من كل أمراضِه وإصلاح ما يتعلَّق به من شهوات وأهواء ورغبات.
لا بدَّ من تجرُّد القلب من اللذَّات الأرْضية والمتاع الفاني؛ لتصبح خالصةً نقيَّة لله - عزَّ وجلَّ.
لا بدَّ من تَحصين القلب وقطع الطَّريق على إبليس لئلا يستولي على هذا الحصن، لا بدَّ من تنقية القلْب من المعاصي والذُّنوب.
أخي الحبيب:
تذكَّر دائمًا أنَّ القلب مضغة بصلاحِها يصلح كل الجسد، وبفسادها يفسد كل الجسد.
أليست هي التي ينظر الله إليها فيتقبَّل الأعمال أو يردّها حسب حالتِها من الصلاح أو الفساد؟! ألَم يقل النبيُّ - عليه الصَّلاة والسَّلام -: ((إنَّ الله لا ينظر إلى صُوَرِكم ولا
إلى أجْسامِكم؛ ولكن ينظر إلى قلوبِكم وأعمالكم))؟!
اللَّهُمَّ ثبِّت قلوبَنا على حبِّك وطاعتك، ودينك الذي رضيته لنا.
القلب هو مجمع المشاعر داخل الإنسان من فرح وحزن، وحب وكره، وخوف ورجاء، وسكينة وطمأنينة.
وهذه المشاعر يتقاسمها طرفان: الإيمان والهوى، وأيّهما يسيْطِر على القلب فإنَّه يسعى لإخْضاع الجوارح لسيطرته، فالقلب هو مخزن الدوافع ومحل اتخاذ القرار، بصلاحه يفوز الإنسان وبفساده يهلك؛ لقول النَّبيِّ - عليْه الصَّلاة والسَّلام -: ((ألا إنَّ في الجسد مضغةً، إذا صلحتْ صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كلُّه، ألا وهي القلب)).
وبعد:
فما أحوجنا في هذه الأيام التى انتشرت فيها الفِتن والمغريات، وجرفتْنا تيَّارات الهوى والشهوات، وطغت الماديَّة على الروحانية، وأغرقَتنا جواذب الأرض وشواغِلها: المال، الأولاد، النساء، العمارات، السيارات، ما أحوجَنا إلى القلب الموصول بالله! القلب الذي تجرَّد من جميع جواذب الأرْض وشواغلها ليتَّجه إلى الله وحْده، يأنس به ويعيش فى كنفه ورعايته.
قلب لا تزعْزِعه الفتن ولا تؤثِّر فيه الشهوات والمغريات، قلب يواجِه الطغيان بالإيمان والأذى بالثَّبات، قلب مطمئنٌّ ساكن إلى ربِّه، راضٍ بقضائه وقدَره، واثق في نصْرِه ومعونته، فلا يتسلَّل إليه اليَأس والإحباط مهما زاد الكرب واستبدَّ به الضيق.
قلب يستمدُّ تصوُّراته وأفكاره ومشاعره وسلوكيَّاته من ميزان السَّماء لا من ميزان الأرض، قلب يشعر ويحسُّ بيد الله وهي تقود خطاه وتَهديه السبيل.
قلب رفع شعار: ﴿ قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ ﴾ [الأنعام: 162].
حول صفات هذا القلب وكيفية الوصول إليه كانت هذه الرسالة:
صفات القلب الموصول بالله:
قلب دائم الخوف من الله:
الخوْف من الله هو الحاجز الذى يمنع القلب من الاستغراق فى الشَّهوات والملهيات، هو اللجام الذي يَمنع النفس من اتِّباع الهوى والوقوع فى سكرات الغفلة والمعصية، وحتى إذا ما أقدم عليْها بحكم ضعْفِه البشرى، فإنَّ سياط الخوف من الله كافية للتَّوبة والإنابة والاستغفار.
وهذا الخوف يدْفع إلى اليقظة الدَّائمة والانتِباه المستمرّ، فيُلزم نفسه أداء الطَّاعات، واجتِناب المحرَّمات، لا خوْف يهزّ المشاعِر ويرسل الدموع، ثم يمضي إلى حال سبيله.
فالقلب الموْصول بالله دائمُ التَّفكير في الخوف تعظيمًا لمقام الله، والخوف من التَّقصير في حق العبوديَّة، والخوْف من عاقبة الذُّنوب، والخوف من الموت وسكراته، من القبر ووحشته، من القيامة وأهوالها؛ ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ﴾ [الملك: 12].
قلب دائم الخشوع:
القلب الموصول بالله دائم الخضوع والانكِسار لله، ينكسِر بين يديْه في ذل وخشوع، يعترِف دومًا بضعْفه وعجْزه وفقره، يشكو دائمًا همَّه وغمَّه إلى مولاه، سريع التأثُّر بالموعظة، يعشَق السُّجود لأنَّ فيه انكسارًا لمولاه، مداوم على الذِّكر، رافع يديْه في فقر ومذلَّة إلى ربِّه قائلاً: "اللَّهمَّ لا تكلني إلى نفسي طرفة عين وأصلح لي شأني كلَّه".
لسان حاله يقول: يا رب، افعل بي ما تشاء، كيفما تشاء، وقتما تشاء.
قلب دائم اللجوء إلى الله:القلب الموصول بالله دائم الفرار إلى الله، كلَّما أصابه هم أو غم أو واجهَتْه مشكلة أو قصَّر في أمر من الأمور، فهو دائم اللجوء إلى الله، يشكو إليه استِحْواذ الشَّيطان وطغْيان الدنيا، والعودة للذنوب، يشكو إليه ظلم الآخرين، يناجي مولاه في كل وقت وحين، قلب رفع شعار: ﴿ وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى ﴾ [طه: 84].
قلب دائم التوبة:
قد يقع هذا القلب في المعاصي والسيئات، وقد يتعرَّض للهفوات والزلات؛ لكنَّه سرعان ما يعود إلى ربِّه بالتَّوبة والاستِغْفار، فيعلن ندمَه ويظهر حزنه وأسفه، ويبكي على تقصيره فى حقِّ ربِّه، ويسارع لنيْل عفْوه ومغفرته؛ ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [آل عمران: 135].
قلب عدوه الغفلة:فالغفلة أشدُّ ما يُفسِد القلب، فالقلب الغافل معطَّل عن وظيفتِه، معطَّل عن الالتِقاط والتأثُّر والاستجابة.
والقلب الغافِل هو الذي ينشغل بملذَّات الدُّنيا وشهواتِها، فيتعلَّق قلبه بالزَّوجة والأولاد والأموال والوظيفة، فلا يصبح فى قلبه متَّسع لله.
لذا؛ فالقلْب الموْصول بالله يكْرَه الغفلة، فهو دائم الذكر لله في كل الأوقات، وقد تجرَّد من كل متاع الدنيا، فأصبح له ما يشغله عن اللَّهو واللَّغو، فلم يعُد في القلب متَّسع لغير الله.
قلب يكره التشاحن والتباغض:
فهو سليم من الأحقاد والبغضاء، لا يخالطه حسدٌ أو غلّ، قلب يُحبُّ الخير للآخَرين؛ بل ويُؤْثِرهم على نفسِه، قلب مليء بالمودَّة والرَّحمة والعطف،
يسعى لمساعدة الآخَرين وقضاء حوائجِهم، فهو دائم الحلم والعفو والصَّفح عن الناس، قلب يعفو عمَّن ظلمه، ويعطي من حرمه، ويصل من قطعه.
قلب لا يعرف اليأس:
فهو لا ييأس من رَوح الله، ولو أحاطتْ به الكروب واشتدَّ به الضيق؛ لأنَّه في طمأنينة من ثقتِه بالله، واثق في رحْمة الله وعوْنه وقدرته على كشْف الضر.
قلب لا يعترِف بالهزيمة والفشَل؛
لأنَّه متيقِّن أنَّ قدر الله دائمًا ينفذ، دائمًا يغير ويبدل، فرج بعد ضيق، يسر بعد عسر، فهو يسير ويستشعِر يد الله وهي تقود خطاه وتَهديه السَّبيل.
قلب معلق بالآخرة:
فهو يعلم أنَّ الحياة للأرض تليق بالدِّيدان والحشَرات والزَّواحف والأنعام، أمَّا الحياة للآخِرة فهي الحياة الحقيقيَّة اللائقة بالإنسان الكريم، الذي خلقه الله ونفخ فيه من روحه.
لذا؛ فإنَّه يتعامل مع الدُّنيا على أنَّها قصيرة عاجلة، هزيلة ذاهبة، حقيرة تافهة، فلا يتلهَّف على تحصيلها، ولا يحزن على فواتِها ونقصانِها.
ويترك التَّشاحُن والتَّنافُس من أجلِها، فلا تستغرق أوْقاته وتفكيره، فقد جعل الآخِرة أكبر همِّه وغاية آمالِه وطموحاتِه؛ ﴿ وَمَا هَذِهِ الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ [العنكبوت: 64].
قلب لا يعرف الراحة:فقدِ استطاع أن ينتصر على شهواته وملذَّاته، ونجح في تحرير النَّفس من الهوى وحبِّ الراحة وكراهية التكاليف، فتراه يُسابق في الخيرات، يُسارع إلى الطَّاعات.
لا يكاد يلمح بابًا من أبواب الخير إلاَّ وينطلق إليه، فهو دائمًا يكْدح ويتعب في الطريق إلى ربِّه ليلقاه بِمؤهلات تبعد عنه كبد الحياة، وتنتهي به إلى الرَّاحة الكبرى في ظلال الله؛ ﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [آل عمران: 133].
كيف يكون قلبك موصولاً بالله؟
معرفة الله - عزَّ وجلَّ -:
على قدر معرفة الله - عزَّ وجلَّ - على قدْر ما يمتلئ القلب من خشْيته - سبحانه - ومحبته، فينشأ من ذلك الإخلاص والإنابة والتَّعظيم، والتوكُّل والاستِسلام لله - عزَّ وجلَّ.
هذا هو بداية سير القَلْب إلى الله - عزَّ وجلَّ.
ومعرفة الله - عزَّ وجلَّ - تحدُث من خلال مطالعة وتدبُّر أسمائِه الحسنى وصفاته العلى، من خلال التدبُّر والتأمل في آيات القرآن الكريم، من خلال التفكر في ملكوت
السماوات والأرض، برؤية عجائب قدرتِه وبديع صنعه، من خلال رؤية مخلوقاته وتذكر نعمه وآلائه، ورؤية آثار رحمته ومظاهر قدرته، وقوَّته وبطشه في إهلاك الظَّالمين
على مرِّ القرون والأزمان.
تدبر القرآن:
القرآن هو الدواء المثالي لتحرير القَلب من قُيوده وشهواته وتعلُّقه بالدنيا ومغرياتها، فالقُرآن هو الوسيلة الأكيدة لإيقاظ الفَرْد من غفلته وجعْله في حالة دائمة من الانتِباه،
وهو أفضل مولِّد للطاقة الإيمانيَّة الكامنة بداخل القلوب.
فالقُرآن هو الرُّوح، الذي يؤنس المؤمن فى رحلتِه الشَّاقَّة في هذه الأرض؛ ﴿ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا ﴾ [الشورى: 52].
وهو النور الذي يبين لك معالم الطَّريق ويضيء ظلمات الجهْل والمعصية؛ ﴿ قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ
الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾[المائدة: 15- 16].
فالحياة مع القرآن هى الحياة مع الله، فالقرآن كلام الله المنزَّل وكلامه الموجَّه إلى الإنسان لمعرِفة ربه حقَّ المعرفة، معرفته بأسمائه وصفاته وأفعاله، بقدرته المعجزة،
برحمته الواسعة، بعلمه الشامل المحيط، فحين يعيش الإنسان مع القُرآن فهو يعيش مع الله.
لذا؛ يجب علينا أن نتعامل مع القرآن على حقيقتِه بأنَّه منهج شامل للحياة، دليل رحلة الإنسان فى هذه الحياة يعرفه من أين يبدأ وأين ينتهي، وما هي المعوقات
والأشواك التى تعتريه فى طريقه، وكيف يتغلب عليها؟
إذًا؛ لا بدَّ أن نتأثَّر بالقرآن؛ ﴿ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً ﴾ [الأنفال: 2].
لا بدَّ أن نتجاوب مع آياتِه ونتذوق حلاوته، لا بدَّ أن يتحوَّل الاستِماع إلى القرآن وتلاوته إلى سلوك ملتزم بما أنزل الله فيه من أحْكام وتوجيهات.
من أجل ذلك أوْصانا النَّبيُّ - عليْه الصَّلاة والسَّلام - بالمداومة على تلاوة القُرآن، فقال: ((اقرؤوا القُرآن؛ فإنَّه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه))، وحذَّرنا من الجفْوة والقطيعة بين المسلم وكتاب الله؛ حتَّى لا ينقطع الرباط الذى يربط القلب المؤمن بالله فقال: ((إنَّ الَّذي ليْس في جوْفِه شيءٌ من القُرآن فهو كالبيْت الخرب)).
مراقبة الله - عز وجل -:
إنَّ استشعار المؤمن مراقبة الله - عزَّ وجلَّ - في كلِّ أمور حياتِه يدفعه أن يستحيي من مبارزة ربِّه بالمعاصي والذنوب، فلا يقْبل أن يراه الله إلاَّ كما يحب، فمَن علِم أنَّ
الله مطَّلع عليْه فلا بدَّ أن يَحرص على نقاء سريرتِه وصِدْق نيَّته، وذلك تدْريب عملي على الإحسان والإخلاص.
فحقيقة الإحسان أن تعبد الله كأنَّك تراه، فإنْ لم تكن تراه فإنه يراك.
إذًا؛ مع استِمرار المراقبة وتوْبيخ النَّفس كلَّ لحظة على ما تفعله أمام الله، يحيا القلب وينشط للطَّاعة، ويستبشر بالحسنة، ويفتر عن المعصية، ويتوارى عن الذَّنب.
المحاسبة المستمرة للنفس:لا بد للمؤمن من جلسات متكرّرة يُحاسب فيها نفسه، يُحصي فيها ذنوبه، يستشْعِر تقْصيره وتفريطَه في
حقوق الله، فهو يعلم أنَّه مَن حاسب نفسَه في الدُّنيا خفَّ عنه الحساب يوم القيامة؛ لذلك أوصانا النَّبيُّ - عليْه الصَّلاة والسَّلام - بدوام مُحاسبة النَّفس، فقال: ((الكيِّس
مَن دان نفسَه وعمِل لما بعد الموْت، والعاجزمَن أتْبَع نفسَه هواها وتَمنَّى على الله))، دان نفسه: حاسبها.
وما أرْوع ما قاله الحسَن البصري: "إنَّ المؤمن - والله - لا نراه إلاَّ يعاتب نفسه: ماذا أردت بأكلتي؟ ماذا أردت بكلمتي؟ ماذا أردت بحديث نفسي؟ وإن الفاجر يَمضى قدمًا
لا يحاسب نفسه"!
غض البصر:
النَّظرة الحرام سهم مسْموم من سهام إبليس يصيب القلب فيفسده، ويورثه ذلاًّ وانكسارًا وتتأجَّج فيه نار الشَّهوة، فينقاد القلب وراء سعار الشهوات والملذَّات، فيصبح
الإنسان أسيرًا لأهوائِه حريصًا على إرْواء شهواتِه، فبَيْن العين والقلب منفذ وطريق.
فإذا خربت العين وفسدتْ خرب القلْبُ وصار كالمزبلة، التي هي محل الأوساخ والنجاسات، فلا يصلُح لسكن معرفة الله ومحبَّته والإنابة إليه والأنس به؛ لذلك أمرنا الله -
عزَّ وجلَّ - بغضِّ أبصارِنا؛ ﴿ قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ﴾ [النور: 3].
أخي الحبيب، تذكَّر أنَّ نظر الله أقْرب إليك من نظرِك للحرام؛ فهو ﴿ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ﴾ [غافر: 19].
واعلم أنَّك سُتسأل عن بصرك يوم القيامة؛ ﴿ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ﴾ [الإسراء: 36]، فهل أعددتَ جوابًا لهذا السؤال؟
التفكر زاد القلوب:إنَّ التفكُّر في خلق الله والتدبُّر والتأمل في كتاب الكون المفتوح، وتتبع قدرة الله المبدعة وهي تحرِّك هذا الكون، وتقلِّب صفحاته - من شأنه أن
يَجعل القلب دائمَ الصِّلة بالله، فيملؤه بالخوف والرَّجاء والحبِّ والإخلاص، والتعظيم والتوكُّل والاستِسْلام لله - عزَّ وجلَّ.
ولقد أثْنى الله على عبادِه المتفكِّرين في مخلوقاته؛ لأنَّ تفكُّرهم فيها أوْصلهم إلى شهادتِهم بأنَّه - تعالى - لم يخلقهم باطِلاً وأحدث فى قلوبهم مزيدًا من الخشية
والإنابة؛ ﴿ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [آل عمران: 191].
والتفكُّر في أسماء الله وصفاته من أعظم أبواب التفكُّر، فإذا تأمَّلت صفات السَّمع والبصَر والعِلم، انبعثت من داخِلك قوَّة الحياء فتستحيي أن يرى ربُّك منك ما يكره أو
يسمع ما يكره، أو تخفي في صدرك ما يكره، وإذا تأمَّلت صفات الكفاية والقيام على مصالح العباد ورزقهم، ودفع المصائب عنهم، انبعثتْ بداخلك قوَّة التوكُّل عليه، والتفويض إليه والرضا به.
يقول الحسن البصري: "تفكُّر ساعة خير من قيام ليلة".
التوكُّل على الله:
التوكل ثمرة استقرار الإيمان فى القلب؛ ﴿ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾ [المائدة: 23]، التوكُّل هو تعلُّق القلب بالله - وحده - في حصول النتائج دون الالتفات للأسباب مع الأخذ بها.
فالتوكُّل على الله يبعث فى القلْب الثِّقة والطمأنينة والسَّكينة والرضا، ألا ترى ما حدث للنبي - عليْه الصَّلاة والسَّلام - وللصدِّيق وهُما فى غار ثور، عندما رأى أبو بكر
المشركين يُحيطون بالغار فقال: يا رسول الله، لو نظر أحدُهم تحت قدميه لأبصرنا، فقال النبي - عليه الصلاة والسَّلام -: ((يا أبا بكر، ما ظنُّك باثنين الله ثالثهما؟!))، حقًّا
وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ﴾ [الطلاق: 3].
الدعاء:
الدُّعاء هو إقرار واعتراف النَّفس بضعفها وعجزها وجهلها، واعترافها بعظمة الله وقدرته وقيوميَّته، فالدعاء سلاح المؤمن حينما يشكو من قسوة الظلم، ويبكي من كثرة
الذنوب، وتُحيط به المصائب والهموم، وتنقطع به الأسباب وتسدّ في وجهه الطرقات، عندها يرفع يديْه ذليلاً، وينكس رأْسه خشوعًا وانكِسارًا، ويهتف من أعْماق قلبه:
يارب..
وعندها يجيبه الله - عزَّ وجلَّ - ويقول له: سلني أعطِك، اطلبْنِي تجدني، أليْس هو القائل: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُم يَرْشُدُونَ ﴾ [البقرة: 186].
الإكثار من الأعمال الصالحة:
لا بدَّ للقلب من زاد وغذاء، ولا بدَّ للنَّفس من شغل، فإن لم نشغل أنفُسَنا بالحقِّ شغلتنا بالباطل؛ ولكي يكون القلب موصولاً بالله لا بدَّ من المبادرة إلى فعل الخيرات
والتسابُق إلى الأعمال الصَّالحة، وعلى سبيل المثال: المحافظة على الصَّلوات الخمْس في أوْقاتها في جماعة بالمسجد، الحرص على صيام التطوع، المحافظة على
الصباح والمساء، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الإكثار من الصدقة، حضور دروس العلم ومطالعة كتب العلم، الحرص على زيارة المرضى، برّ الوالدين وصلة الأرحام؛ ﴿ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المُتَنَافِسُونَ ﴾ [المطففين: 26].
احذر مفسدات القُلوب:
المعاصي والذنوب من أعظم مفسدات القلوب، فلا شكَّ أنَّ ضرر الذُّنوب على القلوب كضرَر السُّموم على الأبْدان، فالقلب الذي يأْلف المعصية ينطمِس ويظلم ويَرين عليه
كثيف، يحجُب النور عنه ويفقِده الحساسية حتى يتبلَّد ويموت.
يقول النبيُّ - عليه الصَّلاة والسَّلام -: ((إنَّ العبد إذا أذنبَ ذنبًا نكت في قلبه نكتة سوداء، فإذا هو نزَع واستغفر وتاب صُقِل قلبه، وإن عاد زيد فيها حتَّى تعلو قلبه، فهو
الران الَّذي قال الله تعالى: ﴿ كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [المطففين: 14].
إذًا؛ المعاصي سبب للذل والصغار وهوان العبْد على ربِّه، والشعور بوحشه بين العبد وربِّه.
والمعاصي قسمان: معاصي الجوارح (العين - الأذن - اللسان - القدم - اليد).
ومعاصي القلوب وهي أشد خطرًا من معاصي الجوارح، وهي: (الحسد والحقد - الشح والبخل - الغرور والكبر - حب الظهور والشهرة - حب الدنيا).
وإيَّاك ثم إياك أن تستصغِر ذنبك وتتهاون بقيمته؛ لأنَّ الله - عزَّ وجلَّ - يقول: ﴿ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَراًّ يَرَهُ ﴾ [الزلزلة: 8].
فلا تنظر إلى صغر المعصية ولكن انظر إلى عِظَم مَن عصيت، وتذكَّر وصيَّة النبي - عليْه الصَّلاة والسلام -: ((إيَّاكم ومحقّرات الذنوب؛ فإنَّهنَّ يَجتمعن على المرْء حتَّى يُهْلِكنه)).
والمعاصي تضعف في القلب تعظيم الرَّبِّ، فلو تمكَّن وقار الله وعظمتُه في قلبٍ لَما تَجرَّأ على معصيته، والذَّنب إمَّا يُميت القلب أو يضعف قوَّته، واعْلم أنَّ ظلام المعصية
حتَّى يصير القلب مثلَ اللَّيل البَهيم؛ ﴿ فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَتِي فِي الصُّدُورِ ﴾ [الحج: 46].
وبقيت كلمة:
لا بدَّ لنا من وقفة مع القلب، لا بدَّ من الاهتمام بتطْهير القلب من كل أمراضِه وإصلاح ما يتعلَّق به من شهوات وأهواء ورغبات.
لا بدَّ من تجرُّد القلب من اللذَّات الأرْضية والمتاع الفاني؛ لتصبح خالصةً نقيَّة لله - عزَّ وجلَّ.
لا بدَّ من تَحصين القلب وقطع الطَّريق على إبليس لئلا يستولي على هذا الحصن، لا بدَّ من تنقية القلْب من المعاصي والذُّنوب.
أخي الحبيب:
تذكَّر دائمًا أنَّ القلب مضغة بصلاحِها يصلح كل الجسد، وبفسادها يفسد كل الجسد.
أليست هي التي ينظر الله إليها فيتقبَّل الأعمال أو يردّها حسب حالتِها من الصلاح أو الفساد؟! ألَم يقل النبيُّ - عليه الصَّلاة والسَّلام -: ((إنَّ الله لا ينظر إلى صُوَرِكم ولا
إلى أجْسامِكم؛ ولكن ينظر إلى قلوبِكم وأعمالكم))؟!
اللَّهُمَّ ثبِّت قلوبَنا على حبِّك وطاعتك، ودينك الذي رضيته لنا.
énergieالإثنين ديسمبر 02, 2013 9:10 pm