بورتريه | يوسف الخليل النائب الصامت: أنا صاحب فكر سياسي
شقّ الرئيس كميل شمعون طريق إيصال مرشحين غير حزبيين، ومن خارج البيوتات السياسية، إلى المجلس النيابي. يظن من لا يفقه في الطبخ الانتخابيّ أنهم مجرد عصي يسند بهم الزعماء لوائحهم. النماذج المماثلة للنائب الكسرواني يوسف الخليل توحي بغير ذلك
غسان سعود
يوسف الخليل. لا بدّ أن يستوقفك الاسم في مفكرة المجلس النيابي. عبثاً تبحث عن صورته في مخيلتك أو تحاول تذكّر صوته. ستلاحظ أنك، ربما، قرأت تصريحاً للنائبة جيلبرت زوين أو سمعتها يوماً ما، فيما لم تتشرف بعد بسماع صوت الخليل الذي يحتل مقعداً كسروانياً في مجلس النواب منذ 2005. تتذكّر كيف دفع تيار المستقبل، في كل دورة انتخابية، مئات آلاف الدولارات لسحب الكرسيّ النيابي من تحته، وكيف بذل رئيس جمعية الصناعيين نعمة افرام الغالي والنفيس للحلول محله، وكيف دمّر الوزيران السابقان فارس بويز وفريد الخازن، للهدف نفسه، كل علاقاتهما السياسية، فتكتشف أن «النائب الصامت» يثير كثيراً من الضجيج بين منافسيه.
يجيب بنفسه على رقم لا يعرفه، ويحدد، فوراً، موعداً في اليوم التالي. يكفي، عادة، أن يسلّم السياسيّ ضيفه رأس خيط عنوانه ليستدل بسهولة إلى مسكنه بفضل النقاط الأمنية وسيارات المواكبة وعجقة المرافقين، لكن، هنا، في محيط «باتيسري كوكتيل» في جونية، لا شيء من هذا كله. يشير صاحب الباتيسري بإصبعه إلى البناية المجاورة، مردداً: الطابق الرابع.
لم يضف الخليل صفة النائب إلى «الطبيب يوسف الخليل» فوق زرّ الإنترفون. تفتح البوابة من دون كاميرا مراقبة تحدق بك أو صوت يسألك من تكون. في الطابق الرابع، يقف صاحب البيت بين الباب ومكتبة صغيرة، مرتبكاً: أيعاتبك على مقالات سابقة، أم يكتفي بالقول إنه يتابعك أم يشتكي من سمن الصحافة وزيتها. تفتح زوجته المبتسمة باب الصالون. الفرش قديم وزينة شجرة العيد تقليدية. يرتدي الخليل، كعادته، قميصاً وجاكيتاً تلامس أكمامهما أطراف أصابعه. تتذكّر، حين تراه، تهكّم أحد زملائه في اجتماع تكتل التغيير والإصلاح عليه بالقول إنه لا يعلم خلال اجتماعات التكتل ما إذا كان الخليل حاضراً ذهنياً معهم أم يمارس اليوغا.
تسأله عن سر وصوله إلى المجلس، فيعيد، باقتضاب، الفضل إلى ثقة الناخبين به. تستفيض في السؤال، مستفسراً إن كان ذلك يعود الى تكتل أصوات بلدته ميروبا حوله وضم نفوذه من جهة والدته أصوات بلدتها فاريا أيضاً، أم الى آل الخليل إحدى أكبر العائلات الكسروانية، أم الى العلاقات الوطيدة بين المرضى وطبيبهم التي علّم النائب الراحل ألبير مخيبر كثيرين كيف يصنعون منها مرجعيات محلية. يتوسع الخليل بفكرته العامة السابقة عن ثقة الناخبين، مستخدماً اللغة الفصحى في رده هذه المرة: «لأنني طبيب وشاعر أحبّني الناس وأسرّوا إليّ بمكامن أنفسهم. عرفوا أنني صاحب فكر سياسي، وأنني أستميت بالدفاع عن كل ضعيف ومظلوم ومعذب». سرعان ما تكتشف أن الرجل ملتزم، مهما كانت أسئلتك، بما قرّر سابقاً قوله. لن يضرب يده على الطاولة، على غرار غيره من أبناء العائلات الكبيرة، مردداً أنا أمثل عائلة الخليل، التي ينتخب الجزء الأكبر منها اللائحة التي يترشح ابن الخليل عليها. ولن يُخرج من جيبه خارطة انتخابية توضح لمحاوره شحّ المرشحين في المربع الجبليّ الذي يمثله برغم كثافة الناخبين. ولن يبيّن قوائم المستفيدين من علب الدواء المكدسة في زوايا منزله. ولن يسرّ لك بأن الأهالي في بعض القرى يصفون الطبيب بكرسي الاعتراف لمعرفته كل شيء عنهم، وحين يكون هذا الطبيب متخصصاً في جراحة الكلى والمسالك البولية فإنه يعرف عن الرجال خصوصاً ما لا يعرفه أحد. سيحافظ على نبرة الصوت نفسها والخطاب العونيّ البارد عن إنجازات البرتقاليين الإنمائية في شق الطرقات وتزفيتها وتوفير شبكات المياه وبناء السدود وخفض فاتورة الهاتف وغيرها، كمن لا يريد الإضاءة على مكامن قوته الحقيقية. فجأة، من دون سابق إنذار، يفاجئك بالقول: «أنا مؤمن برسالة الطب، والتعاطي الإنساني العميق والمكثف. لاحقاً، حين رأيت عام 1996 الناس من كل حدب وصوب، قريبين وبعيدين، يحثونني على الترشح للانتخابات النيابية، ترشحت». تشعر بأنه فعلاً يستهبلك، لم يكن لترشحه في المرة الأولى علاقة إذاً بألاعيب النائب السابق منصور البون، وتنبئه بقدرة الخليل على سحب آلاف الأصوات من كتلة خصومه ليضمن البون وحلفاؤه وصولهم إلى المجلس النيابي. ولم يكن لترشحه علاقة في المرة الثانية بحسابات اللواء جميل السيد الانتخابية لضمان وصول النائب السابق فارس بويز. إنه فقط «حث المواطنين من كل حدب وصوب، قريبين وبعيدين»!
في منزل لا تظهر فيه (كما هي العادة) دزينة عاملات أجنبيات، تُعدّ زوجته بنفسها كوب ليموناضة تقول إنها عصرته الآن ليتسنى للزائر في حال شربه بسرعة الاستفادة من الفيتامينات قبل تبخّرها. أما الخليل، فيتابع خطابه بالفصحى، متمهلاً بين عبارة وأخرى ليتأكد إن كان ضمّ كلمة أو فتحُ أخرى كان في محله. بعد دقائق، تعود الزوجة حاملة قالب كاتو منزلياً، واضح أنها أعدّته بنفسها، وتقول رداً على تعليقك بأنه يبدو شهياً، إنها ستلفه لتأخذه معك. تبتسم مفضلاً تذوقه، مكتشفاً أن كل ما يحصل في هذا المنزل إنما يجري على نحو طبيعيّ بعيداً عن المظاهر والادعاءات التي تصادفها في منازل السياسيين عادة.
يتابع الخليل: «بقيت برغم محاولات خصومي لوأدي رقماً صعباً ومزعجاً». لا تعلم إن كان جدياً بقوله إنه تحول إلى «قضية سياسية واجتماعية بعد انتخابات عام 1996»، أم انه يمزح، لكن الثابت أنه حصد في تلك الانتخابات، منفرداً، 9665 صوتاً، وفي الدورة التي تلتها 12365 صوتاً، من دون ماكينة انتخابية تذكر. مع العلم أن وزن أثقل المرشحين المستقلين في كسروان لا يتجاوز خمسة آلاف صوت. كيف جمع الخليل هذا الرقم؟ هو لا يقول، لكن المطلعين يعيدون الفضل بذلك الى عائلته أولاً، والى علاقاته الطبية ثانياً، والى حصوله، ثالثاً، على أصوات العونيين والكتلويين، الذين انتخبوا برغم مقاطعة مرجعياتهم المبدئية، بفضل علاقاته السياسية بالعماد ميشال عون والكتلة الوطنية. وعام 2005، استبق الخليل عودة عون من منفاه باتصال هاتفي، تبعته زيارة إلى الرابية أعلم خلالها الجنرال أنه مرشح للانتخابات ويأمل تعاونهما. وهو ما تحقق بعد دورتين متتاليتين، ويرجح استمراره بعد تيقن عون من ثابتتين: أولاً، وجود كتلة ناخبة عائلية ــــ مناطقية ــــ اجتماعية ترتبط بعلاقة الطبيب ومرضاه تصوّت للائحة التي يترشح يوسف الخليل عليها. وثانياً، استصعاب غالبية الناخبين العونيين الذين يريدون التصويت لمرشح من اللائحة الأخرى شطب هذا الاسم بسبب شخصيته الودودة.
تعلم أن موعد مغادرتك قد آن، حين تسمع الخليل يوصيك بالكتابة أن «يوسف الخليل صاحب مشروع سياسي متكامل، له أفكاره وأسلوبه، له معجبوه ومنتقدوه، لكن برغم الظروف الصعبة التي ظلّلت هاتين الدورتين النيابيتين والمغالطات الإعلامية بحقه، لا يزال يوسف الخليل رقماً صعباً يقضّ مضاجع بعض رجال السياسة الذين يحترمونه برغم الخصومة، لمعرفتهم أنه لا يفسد للود قضية». وعلى الباب، تحضر الزوجة مجدداً، مؤكدة أنها لا تعاتب الصحافيين الذين «يكتبون عن يوسف بالعاطل لأنهم لا يعرفونه»، متمنية أن يرزق الله ضيفها ابنة حلال كما أنعم عليها بابن الحلال.
هو ليس مشرعاً ولا نائباً حزبياً أو حتى نائباً مسيّساً يحاول إقناعك، بالخطاب المعلّب نفسه، بصوابية توجهات فريقه السياسي أو بالنموذج الخدماتي الذي لا يقهر، لكن، برغم هذا كله، يتلهّف الآخرون لخطفه من عون، الذي لن يتخلى ــــ كما يقول المقربون منه ــــ عنه. والسرّ يكمن في انتخاب كسروان، بحسب أحد نوابها السابقين، «ضد فلان» أكثر بكثير من «مع فلان». وتتراكم لديها الأسباب لتنتخب ضد عون والخازن وافرام، وهذا الحزب أو ذاك، كما انتخبت يوماً ضد الرئيس فؤاد شهاب، لكن لا شيء عند يوسف الخليل أو فيه يمكن أن يستفزها لتنتخب ضده. قد لا يدخل الخليل كتاب «غينيس» عن مقعد النائب الصامت، لكن يمكن سكوته، معطوفاً على تواضعه، أن يدخلاه المجلس النيابيّ ويبقياه فيه.
K!M0الجمعة يناير 31, 2014 11:48 pm