ليس لبطريرك التناقضات من يـدافــع عنه
نادراً ما تصادف يوم الأحد ظهراً رجل دين مسيحيّاً سمع الجزء السياسيّ في عظة البطريرك الراعي (هيثم الموسوي)
ستعلن بكركي مطلع الشهر المقبل وثيقة لجنتها الاستراتيجية السياسية التي يفترض أن تحسم موقف الصرح الملتبس من قضايا كثيرة، وتحدد إطاراً لا يمكن البطريركية الخروج منه عشية الاستحقاقات الكثيرة الآتية
غسان سعود
من علموا بمنح البطريرك الماروني بشارة الراعي المرشح الدائم إلى الانتخابات النيابية في المتن الشمالي سركيس سركيس وسام غريغوار البابويّ من رتبة فارس، «تقديراً لعطاءاته الإنسانية»، ما عاد يفاجئهم إعجاب الراعي الشديد بالوزير (القواتي سابقاً) السابق روجيه ديب. لا يفارق كتاب ديب، «لبنان المستقل»، الأشبه ببرنامج رئاسي، يدي البطريرك، حتى أثناء تجواله الرياضي مع زواره في بكركي.
في وجدان بكركي، أيضاً، مرشح رئاسي آخر هو الوزير السابق زياد بارود. فمنذ عمل البطريرك بنصيحة السفير الفرنسي في لبنان باتريس باولي واصطحب بارود معه إلى باريس وأشركه في لقائه مع الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند (رغم عدم تمتعه بأية صفة رسمية أو كنسية)، لم يعد وزير الداخلية السابق، في نظر الصرح، مجرد شاب كسرواني طموح. يروي أحد المطلعين على خفايا بكركي، في هذا السياق، أن البطريرك المتقاعد نصر الله صفير، تجاوز ـ مراراً ـ فخ الوقوع في تسمية المرشحين إلى أي منصب كان، إلى أن ورده طلب فرنسي شبه رسمي بذلك عام 2008، فقال ما قاله لاستحالة «رد بكركي طلب الأم الحنون»، كما أسرّ صفير لاحقاً لأحد المقربين منه.
وينقل زوار الصرح الدائمون عن الراعي أنه لن يقع في فخّ تسمية أي مرشح إلى رئاسة الجمهورية، وخصوصاً أنه سيكون محرجاً في الاختيار بين مرشحيه (ديب وبارود والأمير حارث شهاب والشيخ وديع الخازن) الذين توطّدت علاقته بهم. لكن تبرز، هنا، ثلاث نظريات: تقول الأولى إن إقفال الراعي «الأوتوستراد» الذي يصل قلبه بلسانه مستحيل. وتشير الثانية إلى اقتناع بكركي بأن خروج المرشح التوافقيّ من الصرح البطريركيّ أفضل من خروجه من أي مكان آخر. وتشدد الثالثة على أهمية المجيء برئيس يقدرّ فضل بكركي في وصوله إلى بعبدا، في حال تعذُّر انتخاب رئيس من أحد الزعماء الموارنة الأربعة.
يتحدث البطريرك أمام المقربين منه بإعجاب عن الرئيس أمين الجميّل، وعن أسلوبه في تدوير الزوايا، وحرصه على زيارة البطريرك بانتظام وعدم استهتاره بالتقاليد الاجتماعية. بعد الجميّل، يأتي النائب سليمان فرنجية الذي تقدّر بكركي موافقته على الجلوس مع سمير جعجع إلى طاولة واحدة بمجرد أن طلب الراعي ذلك، بقدر استحسانها عدم تدخله في شؤون منطقته الكنسية أو في تفاصيل المواقف البطريركية. ويكبر نفوذ النائب الزغرتاوي في بكركي، أو يصغر، بحسب حجم نفوذ المطران سمير مظلوم في الصرح. أما العماد ميشال عون فلم «يُقرّش» ترحيبه بانتخاب الراعي بطريركاً، لا اجتماعياً حيث بقيت الزيارات المتبادلة بينهما ضمن الإطار البروتوكولي، ولا شعبياً وإعلامياً. ولم يوح عون للراعي بأنه يأخذ برأيه، سواء في ما يخص تشكيل الحكومات واختيار الوزراء أو في انتخابات الرابطة المارونية أو النقابات التي كان مرشحو الأحزاب الأخرى لرئاستها يحجون إلى بكركي لنيل بركتها. وحتى النواب البرتقاليون الذين تجمعهم بالراعي علاقة سابقة لانتخابه بطريركاً، باتوا نادراً ما يزورون الصرح الذي امتلأ ملاكه مع قدوم الراعي بالعونيين.
ويكشف أحد المطلعين أن نقطة التحول في لهجة بكركي الداخلية حيال عون كانت في الفشل في إقناع الجنرال بعدم الضغط على الرئيس نجيب ميقاتي في شأن التمديد للواء أشرف ريفي لتجنب الفراغ الناتج من استقالة ميقاتي وتداعياته. وبعدما كان المسؤول الإعلامي في بكركي وليد غياض (الذي تصفه الصالونات السياسية وحتى الكنسية بمفتاح البطريرك الذي يستحيل الوصول فعلياً إلى الراعي إلا من خلاله) عونياً، خفّت حماسته البرتقالية. ولكن، رغم ترك غياض انطباعاً عند بعض المقربين منه بأنه بات أقرب إلى القوات منه إلى العونيين، لا يزال جعجع الرابع في ترتيب العلاقات بحسب متانتها بين الراعي والزعماء الموارنة الأربعة. وكانت القوات قد مرّت بمرحلة مهادنة ودفاع عن بكركي، رد البطريرك عليها بمجموعة تعيينات لحظت تسليم المطارنة المقربين من جعجع مواقع مهمة، قبل أن تعاود القوات هجومها بعد إصرار الراعي على وجوب تشكيل حكومة ميثاقية ورفضه التمديد وتحميله طرفي النزاع المحلي مسؤولية التفجيرات.
أما علاقة الراعي برئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان، فيكتنفها التباس حقيقيّ بعيداً عن المجاملات المتبادلة بين أصحاب الموقعين المارونيين الأول والثاني. تجاهل الراعي، إعلامياً أقله، إيقاف سليمان اندفاعة القانون الأرثوذكسي الذي انطلق فعلياً من البطريركية المارونية. كذلك تجاهل القصر الجمهوري رسائل بكركي المتتالية عن وجوب مغادرة سليمان القصر في الموعد الرسمي لانتهاء ولايته، وكارثية توقيع مرسوم لحكومة غير ميثاقية. مع العلم أن بكركي، اليوم، مقتنعة بوجهة نظر نائب رئيس مجلس النواب السابق إيلي الفرزلي التي تربط إعادة تكوين السلطة في لبنان وتقاسم النفوذ بين الطوائف بقانون الانتخابات النيابية، لكون المجلس النيابي يسمي فعلياً رئيس الحكومة وينتخب رئيس الجمهورية ويوقّع التعديلات الدستورية. وكان سليمان قد عبر عن امتعاضه إثر ضم الراعي الفرزلي إلى اللجنة المؤلفة من الوزير سليم جريصاتي والنائب إيلي كيروز والوزير السابق يوسف سعادة والمسؤول الكتائبي سجعان قزي (اعتذر منسق الأمانة العامة لقوى 14 آذار فارس سعيد عن عدم حضور اجتماعاتها) لبحث العرائض المسيحية التي ترفع إلى بكركي، وكتابة تصور مشترك بشأن وضع المسيحيين في المنطقة. لكن الراعي رفض الاحتجاج السليماني المتذرع بانتقادات الفرزلي الدائمة له، وأعلم ساعي البريد بينهما أن «لا أحد يملي على بكركي من تضم إلى لجانها ومن تبعد».
أنشأ الراعي غداة انتخابه عدة لجان سياسية واقتصادية واجتماعية وإعلامية وعدت بالكثير. لكنها تعطلت واحدة تلو الآخرى، قبل أن تفي بشيء من هذه الوعود. ومثل هذا الفشل ضربة أولى قاسية للعهد البطريركي الذي كان كثيرون ينتظرون منه أفعالاً، تبدأ بخفض الأقساط في المدارس والجامعات الكاثوليكية وتوفير رعاية طبية لمحتاجيها في المؤسسات الطبية المسيحية، وتمر بتنظيف المحاكم المارونية من الفساد المعشش فيها، وتنتهي باستغلال المشاع الكنسيّ لبناء وحدات سكنية جديدة للشباب وتوفير فرص عمل زراعية وغيرها لشباب الأطراف. لم يحصل شيء من ذلك، وهناك عملياً لجنة واحدة لا تزال على قيد الحياة هي «اللجنة الاستراتيجية» (تضم المطارنة بولس مطر ويوسف بشارة والياس زيدان وبولس صياح وسمير مظلوم، وثلاثة آباء، والنائب فريد الياس الخازن والوزير السابق روجيه ديب ورئيس جمعية الصناعيين نعمة افرام والسفير عبد الله بو حبيب والياس أبو عاصي وفاديا كيوان). وتعد اللجنة وثيقة سياسية بشأن وضع المسيحيين في المنطقة يفترض أن تعلن مطلع الشهر المقبل، وتنتظر أن تصلها ورقة اقتصادية من اللجنة الاقتصادية لتعلنها أيضاً. مع الأخذ في الاعتبار أن بكركي التي عوّل الكرسي الرسولي على التجديد فيها عبر انتخاب الراعي بطريركاً لأداء دور يتجاوز حماية مسيحيي لبنان والدفاع عنهم إلى المنطقة كلها، تنكفئ اليوم: لا خطف مطراني حلب الأرثوذكسيين عناها ولا خطف راهبات معلولا واحتلال الإسلاميين المتشددين للمدينة. ولا خطة طوارئ سواء لتأمين صمود المسيحيين في قراهم السورية أو لاحتضانهم هنا في حال لجوئهم. ويكفي، في هذا السياق، مقارنة ما تفعله كل من مطرانيتي زحلة للموارنة والكاثوليك.
نادراً ما تصادف يوم الأحد ظهراً رجل دين مسيحيّاً سمع الجزء السياسيّ في عظة البطريرك الراعي. لا يقارن وقع كلماته، رغم جدليتها، بصدى كلمات من سبقه. ورغم الحركة العاصفة، وكمّ التصريحات الخيالي، وقضاء الأحداث السورية على بعض الشكوك في صوابية الموقف البطريركي، والاحتفاء الفاتيكاني الكبير بالراعي في بداية عهده، واجتماع الموارنة المختلفين الأربعة أكثر من مرة في بكركي، لا يؤدي الصرح في نظر كثيرين الدور الذي كان يؤديه قبل بضع سنوات، ويكاد لا يشعر كثيرون بوجوده. يربط المقربون من سيّد الصرح هذه الخلاصة بعدم ركوبه على عصبية ما، وقوله للجماهير ما تود سماعه على غرار من سبقه وغالبية السياسيين. بينما تتسلسل في أحاديث سياسيين ونواب حاليين وسابقين ورجال أعمال موارنة ورهبان كسليكيين الأسباب التي أدت إلى انكماش الدور البطريركي:
سياسياً، أدى حزب القوات اللبنانية دوراً كبيراً في تحطيم العلاقة بين موقع بكركي والبيئة الشعبية ــــ السياسية الحاضنة له في الأشهر الأولى من عهد الراعي، ربطاً بالخطاب البطريركي لاحقاً، وخصوصاً من الأزمة السورية، ليعزز النفور بين الراعي ومجمل المناصرين لقوى 14 آذار، بمن فيهم الكتائبيون الذين أعطوه فترة سماح بداية. ولم يسع خصوم هؤلاء، وخصوصاً رئيس تكتل التغيير والإصلاح العماد ميشال عون، لتوفير بيئة شعبية ــــ سياسية بديلة تحضن الصرح البطريركيّ وسيده. فلم يملأ فراغ المناصرين لقوى 14 آذار في زيارات الراعي المناطقية بحضور عونيّ استثنائيّ. في وقت، تكثفت فيه التسريبات (التي تنفي القوات مسؤوليتها عنها) عن مآخذ ذات طابع اجتماعي وشخصي على البطريرك وما شاع عن دعاوى بحقه في الفاتيكان، لتهشيم صورته في أوساط المؤمنين غير المسيسين. وأتى تستر الصرح على قضية الأب منصور لبكي حتى انفجارها في الإعلام الفرنسي ليصب الزيت على نار الألسنة. ولاحقاً، أدت كثافة التصريحات البطريركية وجولاته شبه اليومية إلى تراجع الاهتمام الإعلامي بها، وخصوصاً بعد تكرار الراعي المواقف نفسها من دون إنجاز مشروع إنمائي أو عقد لقاءات مناطقية تثير تفاؤلاً شعبياً أو أقله توحي للرأي العام بأن لهذه الحركة بركة. وبعد إيحاء البطريرك للوزير السابق كريم بقرادوني والنائبين السابقين مخايل الضاهر وعبد الله فرحات وآخرين برغبته في إحاطة نفسه بفريق سياسي وأكاديمي يشرح مواقفه السياسية ويبشر بها، عاد وفرق جمع هؤلاء من دون أن يصارحهم بالأسباب، سواء التي دعته إلى تقريبهم منه أو إبعادهم مجدداً عنه. وهو كان قد اجتهد منذ انتخابه للحؤول دون تكرار «ظاهرة فارس سعيد وجويس الجميل» في الصرح البطريركيّ. في وقت غدا فيه المقيمون سابقاً في الصرح، مثل النائب السابق منصور البون والسفير سيمون كرم وغيرهما، يتسللون على رؤوس أصابعهم لمؤانسة البطريرك صفير قليلاً والعودة من حيث أتوا. وعليه، لم يشعر أحد من السياسيين أنه مكلف أو حتى معني بالذود سياسياً عن الصرح. وبلغ التراجع في نوعية زوار الصرح حداً باتت فيه زيارة نائب رئيس حكومة تصريف الأعمال الوزير سمير مقبل لبحث «التطورات السياسية والأمنية» خبراً يوزعه الصرح على وكالات الأنباء. وأضيف إلى كل ما سبق إحباط الرأي العام بدل تفاؤله بإنجاز العهد البطريركي الأول: جلوس الموارنة الأربعة على طاولة واحدة. فها هم يجتمعون ولا يتغير شيء، كأن المشكلة في تبادل مواقعهم الإلكترونية الشتائم لا في تعارض مواقعهم السياسية. قبل أن تلتبس مواقف بكركي التي كانت دائماً واضحة في ذهن هذا الرأي العام: أهي مع القانون الأرثوذكسي أم ضده؟ أولويتها إقرار قانون انتخابي عادل أم الاطلاع على أوضاع المهاجرين اللبنانيين في أميركا اللاتينية؟ وأخيراً، انتخاب رئيس جمهورية قوي أم ملء الفراغ فقط في بعبدا؟
كنسياً، يفتقد الراعي منذ انطلاقته أحد أبرز عوامل قوة صفير حتى تقاعده: التفاف مجلس المطارنة حوله وتبادلهم معه الثقة. فبعيداً عن المطرانين بولس صياح وسمير مظلوم المقربين منه، تزداد التكتلات صلابة داخل مجمع المطارنة. للمطران يوسف بشارة مجموعته وللمطران منصور درويش مجموعة، ولكل من المطران أنطوان عنداري وبولس مطر حساباته. لا يحول التقارب السياسي بين الراعي ودرويش، مثلاً، دون إنهاء تحسس واحدهما من الآخر. يزداد مطارنة الولايات المتحدة بعداً. وبدل انتقاء الراعي بعناية فائقة المرشحين لشغل المواقع القيادية الحساسة في كل من مطرانية حلب للموارنة والوكالة المارونية في روما، آخذاً علاقة هؤلاء به وتقاطعهم معه أو عدمه في ما يخص الملفات السياسية الرئيسية وانعكاسات تحريضهم المحتمل عليه في مواقعهم، يتسرع هنا أيضاً.
يحمل البطريرك، يقول أحد المقربين منه، ألف بطيخة وبطيخة. بطبيعته، يحب أن يدلي بدلوه في كل شيء. يكرر القول بشأن وجوب تكاتف المسيحيين لتثبيت نفوذهم في النظام؛ فليسوا هم من باعد بين الشيعة والسنّة، ولا هم من سيعيدون جمعهم. نياته، يقول المصدر نفسه، طيبة. خشيته جدية من الفراغ. لا يريد حزباً لنفسه، إنما وحدة الرباعي المسيحي. يعلم أن نجاحه مستحيل دونهم ويعلم أنه عاجز عن تحقيق شيء بواسطتهم. يتأثر كثيراً بمن حوله. ما كاد يزف خبر الإجماع المسيحي على قانون اللقاء الأرثوذكسي حتى ورده اتصالان كادا ــــ لولا تدخل أحد النواب السابقين ــــ يدفعانه إلى تصحيح تصريحه أو تخريبه. لا «يُفوكس» على شيء يقول أحد النواب العونيين. بداية، ما كان أحد يخرج من صالونه حزيناً نظراً إلى إسماعه ضيوفه ما يودون سماعه. أما وقد اكتشف الجميع ذلك، فما عاد أحد يخرج من صالونه سعيداً. تؤكد التناقضات في لجنة بكركي الاستراتيجية استحالة تبنيه استراتيجية واضحة. خلافه الرئيسي مع تيار المستقبل يتعلق بقانون الانتخابات، وهنا يقع تقاطعه الرئيسي مع حزب الله الذي يريد قانون انتخابات جديداً أيضاً. يتجاوز نشاط المستقبل، في العمل السري ضده، نشاط القوات اللبنانية. علاقات المستقبل في باريس وروما أفعل من علاقات القوات. تعامل الصرح بجدية فائقة مع الشائعة التي سربتها إحدى الصحف القريبة من تيار المستقبل عن نيات فاتيكانية لإقالته. يعلمون في الصرح أن خلية قوية تريد إعادة عقارب الساعة في بكركي إلى الوراء. هو حين يكتب أو يقرأ نصاً غيره حين يرتجل. صفير، بعكسه، كان يأخذ وقته بالتفكير قبل أن يتكلم وكان قليل الكلام. أما ميزانية الصرح البطريركي فازدادت عشرة أضعاف ما كانت عليه أيام صفير. تراجع وصفه بالزائر البطريركي بعد تراجع عدد سفراته، وما عاد طالبو الموعد منه ينتظرون شهرين للقائه.
Mohamed Samehالجمعة يناير 31, 2014 6:37 pm