اعتاد المسلمون أن يحتفوا في كل عام بقدوم شهر الصوم، وبطريقة مميزة، لأنه شهر الصوم، في ما يمثله الصوم من معنى الفريضة العبادية، التي تستلزم تغييراً في النِّظام الغذائي اليومي، وفي الممارسات العملية التي يستجيب فيها لشهواته وملذّاته في ما يفعله وفي ما يتركه منها، وفي الأجواء الروحية الداخلية التي يمكن أن يعيشها من خلال هذه الفريضة.. وإذا كانت التقاليد الشعبية تتحرّك في حياة الناس من حدث طارئ، أو موقف معيّن، فإن هذه الفريضة قد تحرّكت في الطريق إلى خلق تقاليد شعبية جديدة في أسلوب ممارساتهم للحياة الاجتماعية الخاصة والعامّة.. حتى صارت جزءاً من شخصية هذا الشهر في ما تتميّز به الأزمنة من الملامح الشخصيّة، فالصوم مدرسةٌ إسلاميَّة عظيمة تُربِّي الإنسان بكلِّ مكوناته ومقوِّماته النفسيَّة والجسميَّة والروحيَّة والخلقيَّة والاجتماعيَّة.
وقد جعل الله للإنسان نوعين من الصوم: صوماً صغيراً وصوماً كبيراً فالصوم الصغير مقدّمة للصوم الكبير والمعركة الصغيرة مع النفس في شهر الصوم هي مقدمة للمعركة الكبيرة مع النفس ومع الآخرين في غير شهر الصوم عن معاني الصوم في شهر الصوم. ونعرض عدداً من النقاط الهامة والتي تبين أهمية دور الصيام في تكوين شخصية الإنسان المسلم، وهي على النحو التالي:
تنمية الشخصية الإسلامية
يعد الصوم مدرسة إسلاميَّة عظيمة تُربِّي الإنسان بكلِّ مكوناته ومقوِّماته النفسيَّة والجسميَّة والروحيَّة والخلقيَّة والاجتماعيَّة؛ إذ إنَّ للصوم حِكَمًا كثيرة وفوائد جمَّة من الناحية الاجتماعيَّة والنفسيَّة والجسميَّة والروحيَّة والخلقيَّة التي تؤدى إلى تنمية الشخصية الإسلامية.
ويعد الصوم مدرسة تربوبية كبرى يتربى فيها المسلم على الإيمان الحقيقي، الإيمان الذي تزينه التقوى والمراقبة والمراجعة والمحاسبة، الإيمان الذي يتربى فيه المسلم على الحمد والشكر والتحمل والصبر، والإيمان الذي يجمله علم ويحليه حلم، فالصوم من أهم العوامل والمؤثرات التي تربط الإنسان بخالقه وتوقظه من غفلته فيندم على ما ارتكبه من المخالفات والآثام وتصحو هذه النفس عن المعاصي وينقطع شهرا إلى الله تعالى حتى وهو في عمله دائما يتذكر صيامه ومع تلاوة القرآن وفي كل أحواله هو مع الله تعالى. إشراقات ونورانيات وروحانيات كلها ببركة شهر القرآن توبة وغفران وعفو ورضوان ينقاد إليه المسلم في هذا الشهر فيعود إلى نقاء وصفاء وسمو روح عن كثير من الشهوات وملذات الجسد.
وتمثّل فريضة الصوم في تكوينها الماديّ - إنْ صحّ التعبير - الإمساكَ عن الطعام والشراب وبعض الملذّات الخاصّة، وتمثّل في مدلولها الروحيّ، العمل الذي يأتي به الإنسان متقرّباً إلى الله، في ما تعنيه عباديّة العمل من انطلاقة من معنى التقرّب به إلى الله، فإذا وحّدنا بين الجانب الماديّ والروحي، كانت النتائج الحاسمة: يقظة روحيّة متحركة في داخل الإرادة، وإرادة ثابتة قويّة في حركة الروح، ما يوحي للإنسان بالمراقبة الدائمة لخطواته العملية، ومشاعره الذاتية وأفكاره الخاصّة، من خلال ما تحققه المراقبة اليومية في مسألة الملذّات العادية التي يريد أن يحفظ نفسه من ممارستها، فإنّ الالتزام بالكفّ عنها على أساس هدف القرب من الله، يعمّق في الذّات بشكل متحرّك معنى القرب من الله كعنصر أساس من العناصر الحيّة من غايات الإنسان في الحياة، وهو ما ينعكس إيجابياً على كلّ جوانب شخصيته الأخرى في الفكر والشعور والعمل.. لأنّ القاعدة الثابتة واحدة في ذلك كلّه، فالإنسان لا يمكن أن يحقق القرب من الله في حياته إلا إذا تحوّل كيانه إلى حركة دائبة شاملة في هذا الاتجاه في جميع المجالات العملية التي يستهدفها في الحياة.. وهذا ما تعمل التربية الإسلامية الهادفة على تحقيقه في عمليّة تدريب الإنسان المسلم، عندما توجّه كلّ اهتماماته نحو الله، باعتبار أنه غاية الغايات، فلا يتحرّك الإنسان إلا من خلاله، على أساس الشعور الحميم العميق بالخوف منه أو المحبة له.. وهذا هو معنى العبودية في ما تعنيه من الخضوع المطلق لله، في كل منطلقاته وتطلعاته، وذلك هو سرّ التوحيد الإسلامي الذي يمثّل وحدة الدّرب والهدف من خلال وحدة الخالق في ما توحيه لنا الآية الكريمة: ï´؟ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ï´¾ [فصلت: 30].
والآية الكريمة: ï´؟ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ï´¾ [الأنعام: 162، 163].
وقد يستطيع الصّوم، في مدلوله الإنساني، أن يحرّك الجانب الاجتماعي في شخصية الإنسان المسلم، وذلك من خلال بعض المشاعر الذاّتية التي يعيش فيها الشعور بالجوع والحرمان في ظروف اقتصادية صعبة، ليثُير في نفسه الإحساس بالمسؤولية في الخروج من هذا الواقع الذي يفرضُ مثل هذه المشكلات والآلام، فيتحرّك تبعاً لذلك، من أجل المواجهة العمليّة للواقع، بالجهد الفردي تارة، أو بالجهد الجماعي أخرى، أو بالتحرك السياسي المتجه نحو التغيير في حالة ثالثة..
وقد يثير الصوم مشاعر الإنسان في الأجواء الروحية نحو أفق أبعد، فينتقل من الشعور بالجوع والحرمان إلى ما ينتظره في يوم القيامة من جوع وعطش، عندما يطول وقوفه بين يدي الله على أساس الأعمال المنحرفة التي تنتظر من خلالها الحسابات الدقيقة الطويلة، فيعمل في الدنيا ليخفف عن نفسه هذا الموقف الطويل، لما يتراجع فيه من خطوات، وما يصحح من أخطاء، وما يتحرك نحوه من مشاريع وأهداف، وهذا ما عالجه رسول الله صلى الله عليه وسلم في بداية خطبته التي استقبل بها شهر رمضان المبارك: (واذكروا بجوعكم وعطشكم جوع يوم القيامة وعطشه) وهكذا نجد في الصوم مجالاً واسعاً للانطلاق إلى آفاق متنوعة واسعة في ما يريد الله للإنسان أن يعيشه من آفاق الخير والتقوى والصلاح، وهو ما ينعكس بالإيجاب على تكوين شخصية المسلم ونموها.